ظل المسجد في الإسلام على حرمته كبيتٍ لله مُقدَّس، يُعيد فيه المسلم توازنه الروحيّ تجاه ربِّه وتجاه محيطه، يهابه الحاكم والمحكوم على السواء، حتى وإن استُعمِل- في فترات انحطاط المسلمين- كمِنصّةٍ يخاطب مِن عليها علماءُ ''السلطان'' رعيّتَه، فيُزيِّنون لهم سوء أفعال الحاكم، ويحثّونهم على طاعته العمياء، ويُفتون لهم بعدم جواز الخروج عنه مادام يُقِرّ بالشهادتيْن وإن أعاث في الأرض فسادًا، ولأن الإسلام هو دين الفِطْرة فلم يُنكِر الجزائريون القُدامى على الفاتحين الأوائل الدعوة إليه لِمَا وجدوه فيهم من أقوالِ تُصْدِقها الأفعال، فدخلوا في هذا الدِّين أفواجًا، بل حملوا رايته وأوصلوه- من غير عُنف- إلى أقصى بقاع الأرض، إلى أن ظهر في زماننا الرديء هذا ''فاتحون'' جُدُد أدخلوا على إسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ما لم يأت به، وراحوا عبر بيوت الله الآمنة يتوعّدون المسلمين بكل أنواع العذاب الذي تقوم به في الدنيا طوائف لم يعُد لدم المسلم حُرْمة لديها، وأصبح قتْل كلِّ مَن يسير إلى الله على غير طريقتهم وذّبحه تقرُّبًا إلى الرحمن الرحيم ! وهم يُجزِمون أن ضحاياهم إنما يُبعَثون في الآخرة على نواياهم، ولذلك لا يجدون حرِجًا في هدْر الأنفس التي حرّم الله قتْلها، ظانِّين أنها الطريق الأقصر إلى ''هِداية'' البشر . كان أئمّة المساجد قديمًا ''مُدمنين'' على إعمال العقل لتطبيق الشرع، ولا يكفون عن الاجتهاد في تعبيد طُرُقٍ جديدة، لتبسيط الدِّين وتسهيل العبادة على الناس، بما يتماشى ومُستجدّات عصرهم، وحينما تحنّط العقل العربي المسلم وتوقّف الاجتهاد في الإسلام، استولى على رايته، أُناس ليس من العلم الشرعيّ ولا من المعرفة العلمية ولا من الخبرة الدنيوية شيء إلا ما يشتركون فيه مع العامة فأضاعوا على الناس دينهم، وسوَّدوا لهم دُنياهم، حتى كادوا يُخرِجونهم منه أفرادًا وجماعات كما دخلوه من قبْل أفواجًا أفواجًا، وقد تفطّن النظام السياسي العربي الذي لم يكن يملك كل الشرعية التي تؤهِّله للاستمرار في الحكم، إلى تجذّر العقيدة في الأنفس، وحاجة أصحابها المُلِحَّة إليها، كلما ادلهمَّت عليهم الحياة، كما تحسَّس حاجته الجارفة و ''شهوته''الحيوانية في الحكم الدائم والسيطرة المُطلقة على كل شئون الدولة الحديثة، التي جاءت نتيجة تضحيات الشعوب بفضل ما زرعه الإسلام فيها من قِيَّم الحرية والعدالة ونُكران الذات والصدق والشرف، فعمل على إفساح المجال لأولئك ''البسطاء'' في المعرفة اللازمة، وقدَّمهم كعلماء لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، كيْ يقوم هؤلاء من على منابر بيوت الله بالمصادقة له على ديمومة حُكْمِه وإن استبد، وهو بالمقابل أغدق عليهم من العطايا ما لا يعرف غيره كيف جُمِعت، من أصحاب المال الفاسد، وكما تميَّزوا بفتواهم المُنفِّرة، فقد تميّزوا بشعاراتهم التجارية ''هذا من فضل ربِّي''! قال لي أحدهم : إنه فرح كثيرًا عندما وجد نفسه بالصدفة، يقيم في منزله الجديد قُرْب مسجد الحيّ، لأنه سيسعد بتأدية صلواته جماعة كلما كان في بيته، ولكنه بعد صلاة الجمعة الأولى في إقامته الجديدة، كاد أن يهجر الجامع حتى في صلوات الجمعة والأعياد، نظرًا لما يطرحه إمام ذلك المسجد من أفكار متطرِّفة تُشهِّر بالآراء التي تخالفه، فيما صغُر من مسائل شرعية أو كبُر، وتدعو إلى اعتماد فتاوى وافدة، ونبذ ما قال أو يقول به شيوخ الأمة، بالرغم من أن الدستور في كل قراءاته ''الرئاسية''، يُؤكِّد على أن الإسلام هو دين الدولة، أي أن حمايته من العابثين والدجالين، وتجديد قراءته بما يتلاءم والحياة العصرية، يقع على عاتق الدولة وحدها، ولا يُسمَح لأيّ طائفة أن تختطفه أو تحتكره أو ترهنه، غير أنها أهملت هذا الواجب المُقدَّس على ما يبدو، أو ظنّت أن في التفريط فيه- لصالح فئةٍ تهادنها اليوم مصلحيًّا- مصلحةً لاستمرار الحكم الدائم، وإذا كان- عمومًا- اختطافُ بعض المساجد من طرف مجموعات متناقضة، هو نِتاج طبيعيّ لانكسارات المسلمين المتتالية عبر العصور، فإن محاولات الانتصار للهزائم التاريخية القديمة، لم تُنتِج في الواقع إلا انهزامات جديدة أخرى، بما زرعته من فِتَنٍ مُدمِّرة بين المسلمين أنفسهم، وتحويل بلدانهم إلى ساحةٍ مفتوحة على كل أنواع الاقتتال العبثي، وقد يُعذَر هؤلاء ''المحتلون'' الجدد للمساجد، فهم إما دعاة دنيا وقد ألبسوا الدِّين ثوب الأيديولوجية أو الحزبية، وإما أنهم خارج زمانهم، وقد أسقطوا مرجعياتهم الوطنية، ولم يعودوا يعترفون بها جهْلا أو تكبُّرًا، وانساقوا وراء مرجعيات غريبة، قد تكون ''شيْخًا'' أو شيوخًا، يُقيمون في بلاد بعيدة، لا يعرفون هم أنفسهم فيها، غير مأواهم والمسجد الذين يقصدونه، أو الطريق القصير الرابط بينهما، فيُصبحون- بفضل مَن تسلّلوا بيننا إلى مساجد الله- مُفتين لأكثر من مليار ونصف المليار مسلم، تختلف لغاتهم وألوانهم وعاداتهم وجغرافياتهم، مما يُحتِّم على الدولة أكثر من أيِّ وقت فات، وقبل أن تُصبِح الفِتَن النائمة داخل دُور العبادة ووحدة المسلمين، لهبًا يُحرِق الجميع، أن تُسرِع لحماية بيوت الله، من بعض عباده الذين لم يخشوْه سِرًّا وعلانية ...