يُعتبر الإسلام من أكثر الديانات انتشارًا عبر الزمان والمكان واستقطابًا للناس، ولعل هذه الميزة هي ما يثير مخاوف أعدائه منذ ظهوره إلى يومنا هذا، وقد تكون قلة شواهده المادية- إذا ما قورِنت بالكمِّ الكبير من تراث بعض المُعتقدات الأخرى، سماويةً كانت أم وضعية، وسواء كان ذلك في الأمصار التي دخلها فاتحوه وخرجوا منها، أو تلك التي بقي فيها أتباعه- تعود إلى وجود خُطّةٍ مُحكَمة وضعها الخائفون من الإسلام وطبّقها المُعادون له، الذين يكونون قد جرّوا إليها المُفْرِطين في التحمُّس له، وانخرطوا فيها دون أن يدروا، فأضروا أنفسهم قبل أن يضروه، ومما تعمل عليه تلك الخطة، هو الترويج لذلك الشذوذ الذي يمارسه بعض المنتسبين إليه، من تكفيرٍ للناس وقتْلٍ للأرواح وتدمير للعمران وتعطيل للتطوّر، حتى كاد المسلمون الأسوياء أنفسهم، يتبرّؤون من ذواتهم الروحية، ولولا الإيمان بقوله تعالى: »إنَّا نزَّلنا الذِّكْر وإنّاَ له لحافظون« لظن الناس أن الإسلام في طريقه إلى التلاشي، مع تآكل آثاره المادية بشكلٍ مُريب. أكثر من خمسة عشر قرْنًا خلت على ظهور الإسلام، كأكبر ثورةٍ على الانحراف البشري الذي طال الفِطْرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، وقرون عديدة مرت على تمدُّدِه السريع عبر الأصقاع، وإقامته نهضةً عظيمة أنتجت حضارة أعظم، ما تزال إلى اليوم تُثْرِي الحضارة المعاصرة، وحينما نقوم نتمعّن في تلك الحضارة من خلال الشواهد المادية، نجد أن هذه الأخيرة لا تُعبِّر بالشكل الكافي، عن عظمة الحضارة العربية الإسلامية، التي تُعتبَر أطول الحضارات الإنسانية، بل قد تكون في مؤخِّرة التراث البشري المادي، حتى على أديم الجغرافيا التي لم تسقط فيها راية الإسلام مذ رفرفت، وإذا كانت كلُّ رقعةٍ أو قُطْرٍ أو بلاد مسئولة عن ذلك الضعف أمام الأجيال الجديدة من أبنائها المحليين، فإن الآثار الإسلامية في المدينتيْن المُقدَّستيْن: مكة المُكرَّمة والمدينة المُنوَّرة، مسئولية جميع المسلمين أينما كانوا، وليست حقًّا خاصًّا تحتكره الدولة السعودية . تقول دراساتٌ موثَّقة، إن تسعين في المائة من الآثار الإسلامية، في مكة بوجهٍ خاص، قد أُزيلت أو هي في طريق الإزالة، بحُجة توسيع مساحة الحرم المكِّي، كما هو الحال أيضًا مع الحرم النبوي الشريف، وقد أثارت عمليات التدمير، حفيظة بعض المسلمين داخل المملكة، كما أجّجت احتجاجًا كبيرًا خارجها، خاصة من طرف تركيا التي رأت أن آثار ما بقي من معالم الدولتيْن العباسية والعثمانية الواقعة في الجانب الشرقيّ من المسجد الحرام، والتي حُفِرت عليها بالخط العربي، أسماء الصحابة ، وتاريخ معراج الرسول صلى الله عليه وسلم، هي في طريق الزوال، مثلما زالت قبلها كل الآثار الأخرى التي ظلت قرونًا من الزمن شواهد مادية للإسلام، وقد برّرت السلطات السعودية عمليات الهدم تلك، بدعوى توسعة الحرم، أمام التزايد المستمر لحجاج بيت الله، مُطْمَئنّة في عملها إلى ما قاله مفتي المملكة: »ما هُدِّم من آثارٍ في الحرَميْن الشّريفيْن لا مانع منه، بل إنه من الضروري«. لقد هُدِّم البيت الذي وُلِد فيه النبي محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، بشُعْب الهواشم، وهو الذي ظل على امتداد قرونٍ مضت، مَعْلمًا كبيرًا في تاريخ الإسلام، كما هُدِّم قبله بيتُ السيدة خديجة بنت خُويْلد، وأول امرأةٍ في الإسلام، وقد أقيمت على أنقاضه- مع بداية خمسينيات القرن الماضي- مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، هي الأخرى في طريقها إلى الإزالة اليوم، واختفى كذلك بيْت الأرقم بن أبي الأرقم، الذي يُعَدُّ »وَكْرَ« انطلاق الخلايا الأولى، للثورة التي جاء بها الإسلام، ومنه تخرّج عُمَرُ بن الخطاب مسلمًا فاروقًا بعدما دخله كافرًا ظالمًا، كل ذلك يجري دون أن تثور ثائرة اليونسكو، المؤتمَنة على حفظ التراث البشري كله دون تمييز، ودون أن تستيقظ منظمة المؤتمر الإسلامي، وتخرج من دائرة انحيازها المشين إلى »أيديولوجية« الأقوى، أو تأرجحها بين سياسات الدول »المتأسلمة«، وتظل جرّافات الهدْم تنثر التراث المشترك للمسلمين جميعهم، في مهب ريح إتلاف الذاكرة الجماعية للأمة، وأية ذاكرة لأية أمة. إن التوسعة التي تقوم بها المملكة السعودية، عمل حضاري كبير، مأجور عليه أصحابه، شريطة أن يكون ضمن خُطَّةٍ تعمل على صيانة الآثار الإسلامية الهامة لدى كل مسلمي العالم، والحفاظ عليها من نحْت الزمن ومن تطرّف الأفكار كذلك، أما إذا كانت تلك التوسعة من أجل إقامة ناطحات سحاب، ومراكز تجارية، ومحطات تسوُّق بالدرجة الأولى، فتلك لا يمكن أن نصفها إلا بالمجازر الثقافية، التي تضاف إلى ما يشهده العالم الإسلامي، من حالة انحطاط يُسيِّرها دعاة الفتنة الجدد، ممَّن كفَّروا كل مَن لم يتّبِعْ هواهم، وأخشى ما يخشاه المسلم، أن تتحوّل المدينتان المقدّستان في ظل هذه الحالة- كما تنبّأت به إحدى الصحف البريطانية الكبيرة- من »منشأ للديانة ومقصدٍ تقليديٍّ لأداء فريضة الحج عند المسلمين، إلى مجرّد مدينتيْن عصريتيْن للأثرياء«، في إطار تنشيط ما أصبح يُعرَف بالسياحة الدينية، وحينها تكون مادِّيَّةُ أبي سفيان في جاهليته، هي التي انتصرت، حينما جادل الرسول محمّدا صلى الله عليه وسلم في الحج بقوله: إن الحَجَّ تِجارةٌ أولاً وعبادةٌ بعدها ...