يقول ابن عطاء الله السكندري:”سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلاَّ من حيث الدليل عليه،ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصلهم إليه”. لقد أخفى الله عن الناس أولياءه بمظاهر الإنسانية ونقائص البشرية وما تعتريهم من الحاجات العضوية. إذ تجدهم كغيرهم يصفقون في الأسواق ويندمجون في التعامل مع الدنيا وأسبابها ويمارسون كبقية الناس حظوظهم فيها،ويتعرضون كغيرهم لأسباب الحب والكراهية والغضب والرضا، وينكحون وينشؤون الأسر ويبنون المنازل ويشتغلون بتأثيثها، وتلذّ لهم الأطعمة الطيبة فيقبلون إليها،ولا تروق لهم الأخرى فيعرضون عنها.. فتقول في نفسك:ما أبعد أن يكون هذا الشخص من أولياء الله. وما شأن هذا الذي يتعامل مع أسباب الدنيا ويسبح في بحارها بالولاية وهكذا فإن الأولياء من عباد الله محجوبون عن أبصار الناس بما يرونه من مظاهر مكوناته بحجاب بشريتهم وعوارض إنسانيتهم،كما أن الله حجب ذاته العلية عن أبصار الناس بما يرونه من ظواهر مكوناته التي لا يبصرون معها شيئاً آخر. إذن فمن هم الذين يتأتى لهم أن يعرفوا أولياء الله،وما السبيل لهم إلى ذلك؟ الذين يتأتى لهم أن يصلوا إلى معرفتهم،هم الذين تأتى لهم الوصول إلى معرفة الله وسلكوا السبيل إلى ذلك. أي إن السبيل إلى معرفة أولياء الله، متفرع عن السبيل إلى معرفة الله عز وجل، فمن عرف الله مستعينا بالدلائل التي سبق بيانها في أكثر من مناسبة،ثم لزم بابه متحققاً بذلّ عبوديته.. أوصله ذلك إلى مشاعر حبه ومخافته وتعظيمه وهذا معنى وصول العبد إلى الرب سبحانه وتعالى. فإذا وصل إليه أوصله الله إلى أوليائه،بأن يعرّفه عليهم ويقربه منهم،ويدخل في قلبه محبتهم،ويوفقه للأخذ عنهم والاستفادة منهم. وكما أن حواجز الدنيا ومظاهرها لم تحجبه عن معرفة الله وشهوده،فكذلك البشرية وأعراضها ومعايبها ،لم تحجبه عن شهود ما وراء ذلك من الأنوار المستودعة في قلوب من اجتباهم الله وميزهم بالولاية له والقرب منه. وإن إرادة الله إيصال عبد من عباده إليه عن طريق إيصاله إلى أولياءه لا تجعل منه ولياً في الوقت ذاته.. على أن درجات الوصول إلى الله كثيرة ومتفاوتة، كما أن درجات التقوى أيضاً كثيرة، فليس كل الواصلين داخلين في زمرة الأولياء المقربين، كما أنه ليس كل من وصف بالتقوى بعد الإيمان، أحرز رتبة الولاية التي تحدث عنها بيان الله عز وجل. غير أن الأهمية لا تكمن في التعرف أو اللقاء في حد ذاته وإنما تكمن الأهمية في الوثوق وحسن الظن بمن تبلغهم أخبارهم من الأولياء والصالحين،وربما جمع من الناس يتزاحمون على مجلس أحد الشيوخ الصالحين، لغرض دنيوي أو لتعقب نقيصة فيه أو عيب، وابتغاء الهزء والتسلية.. فهؤلاء لا يعدون في زمرة الواصلين إلى الأولياء، وإن رأوهم وقصدوا إليهم وحظروا مجالسهم. وأختم حديثي هذا بوصية أتجه بها إلى نفسي أولاً، ثم إلى سائر الإخوة القراء، ألا وهي التحذير من التورط في سوء الأدب مع عباد الله الصالحين،لا سيما الذين هم مظنة الولاية..وسوء الأدب قد يكون في كلمة نابية أو نظرة أو استهزاء، أو إطالة اللسان بالاعتراض والنقد،بقصد التجهيل والانتقاص.ولتعلم أن هذا التصرف يندرج في معنى المعاداة التي حذر منها الله عز وجل في الحديث القدسي بقوله: ”من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب”.. فكم من تائه مسرف على نفسه شفع له عند الله حبه للصالحين وحسن ظنه بهم وتأدبه معهم. والزم معهم النصيحة القائلة:كل من رأيت فالخضر اعتقد،فإنك إن أصبت الحق في افتراضك كان من حسن ظنك به وتأدبك معه ربح كبير وفائدة عظيمة في دينك، وإن لم يكن افتراضك في الحقيقة صواباً، فإن حسن ظنك به لا يظرك بل المأمول أن ينفعك ويقربك إلى الله عز وجل، إذ أن محبتك لمن ترجو صلاحهم،ليست في الحقيقة إلا أثراً من آثار المحبة. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي