احذر من أن تكون في دعائك كمن يريد أن يستخدم الله لإنجاز مطالبه يقول ابن عطاء الله السكندري:”كيف طلبك اللاحق سبباً في عطائك السابق”. إن العطاء الذي يتفضل الله به على الإنسان، أمرٌ صدر القرار به من الله تعالى في الأزل، بل كل ما ينال الإنسان من أنواع السراء والضراء، إنما يتم بموجب قضاء الله بذلك في الأزل، وإنما يتم إنجازه وتنفيذه في الوقت الذي حدده علم الله وإرادته في الأزل أيضاً. إذن فطلبك اللاحق والمتأخر اليوم، لا يصلح أن يكون سبباً لما قضاه الله من إعطائه مطلوبك في الأزل، إذ إن السبب يكون في الواقع وقواعد المنطق قبل المسبب، ولا يكون بعده. وهذا الكلام العلمي الذي يقرره ابن عطاء، إنما يتوجه به إلى من يسأل الله حوائجه على وجه الطلب، أي يتخذ من الطلب سبباً للحصول على المطلوب، بالبيان والتفصيل اللذين أسلفتهما لك، فيقال له: إنك نسيت أن كل شيء إنما يتم بقضاء وقدر، فطلبك الذي تتوجه به إلى الله اليوم لا يكون موجباً الذي قرره لك في الأزل ،قبل أن تخلق وقبل أن يوجد طلبك. فقد تستشكل فتقول: فهب أن الرجل دعا، ولم يطلب، بمقتضى الفرق الذي تم بيانه بين الطلب والدعاء، أفما ينبغي أن يقال للداعي أيضاً: كيف يكون دعاؤك اللاحق سبباً لعطائك السابق؟ والجواب أن الدعاء ليس سبباً للعطاء، وإنما هو كما قلت لك عبادة مقصودة لذاته، وإنما يكرم الله عبده الذي يتقرب إليه بهذه العبادة، فيعطيه ما سأله، جزاء لعبادته، إذن فالدعاء ليس سبباً يوسطه العبد بينه وبين ربه، حتى يُعتبر العطاء متسبباً عنه. على أن الفرق الذي ذكرته لك بين الطلب والدعاء، ناظر للقصد، تحدده النية، وإنما يحذر ابن عطاء صاحب الحاجة من أن يتجه القصد منه إلى الوصول لمطلبه، فلا يجد لذلك وسيلة إلا ان يتقدم بطلبه هذا إلى الله، فيتخذ من طلبه سبباً إلى مقصده، وينصحه أن يتجه منه القصد بدلاً عن ذلك،إلى عرض فقره ومسكنته وعجزه بين يدي الله، معبراً بذلك عن عبوديته التامة له، وصاحب هذا القصد راض عن الله في كل الأحوال، وإذا استجاب الله دعاءه وكشق عنه ضره، فإن ذلك لا يكون مسبباً عن دعائه الذي اتجه به إلى الله تذللاً وتعبداً، وإنما يكون مكافأة من الله له على عبادته والفرق كبير بين الأمرين. وهذه المكافأة مقررة في سابق علم الله وغيبه،إذ قد علم الله في الأزل وفي سابق غيبه ذاك أن عبده هذا سيعلن عن عبوديته ومملوكيته التامة له سبحانه وتعالى، وفي ذلك الغيب الأزلي عَلِمَ اللهُ وأرَادَ أنه سيثيبه على عبادته تلك فيكشف عنه ضره ويصلح له أمره. وبعبارة أخرى: إن الداعي الذي يتقرب إلى الله بعبادة دعائه، يعلم أنه إنما ينفذ بعلمه هذا شيئاً ثابتاً في قضاء الله،أي سابق علمه، وهو يعلم أن الاستجابة التي قد يكرمه الله بها ثابتة هي الأخرى في قضاء الله وسابق علمه. وشتان بين من يدعو الله ويسأله على هذا الوجه، وبين من يطلب منه متصورا أن طلبه سيكون سبياً لنيل مطلبه، كالذي يتصور أن الدعاء هو الذي يشفيه وأن الطعام هو الذي يشبعه. وقصد ابن عطاء الله من هذا الكلام: أولاً:أن يلفت نظر المسلم الصادق في إسلامه إلى أن عليه أن يتقرب إلى الله بالدعاء لأنه عبادة، ولأنه بطاقة الذل والمسكنة والعجز، يقدم نفسه على أساسها إلى مولاه وخالقه عز وجل،خاضعاً لأمره، راضياً بقضائه، سواء استجاب دعاءه أم لم يستجب. ثانياً: أن يحذره من أن يتخذ من طلبه الذي يتقدم به إلى الله مجرد سبب فيما يتصور للحصول على مطلوبه، فيكون كمن يريد(في وهمه) أن يستخدم الله لإنجاز مطالبه. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي