حركة البناء الوطني تنظم ندوة لشرح خطتها الإعلامية الرقمية تحسبا للانتخابات الرئاسية    باتنة.. إعطاء إشارة تصدير شحنة من الألياف الإصطناعية إنطلاقا من الولاية المنتدبة بريكة    وهران.. تعزيز روح المبادرة لدى طلبة العلوم الإنسانية    دولة فلسطين.. حتمية ودونها سيظل السلام غائبا    بلمهدي يدعو إلى تعزيز التواصل مع خريجي الزوايا سيما من دول الجوار    حصيلة شهداء غزة تتجاوز 34 ألف ومناشدات لتوثيق المفقودين    إيران تنفي تعرضها لهجوم خارجي    تخلّص من هذه العادات لتنعم بالسعادة بعد التقاعد..    كيف تتعامل مع قرار فصلك من العمل؟    بجاية: مولوجي تشرف على إطلاق شهر التراث    وزارة الثقافة تقدّم ملف "الزليج" ل "اليونسكو"    المهرجان الثقافي الوطني لأهليل: أكثر من 25 فرقة تشارك في الطبعة ال 16 بتيميمون    "صديق الشمس والقمر " تفتكّ جائزة أحسن نصّ درامي    الملتقى الدولي "عبد الكريم دالي " الخميس المقبل..    المغرب: هيئات نقابية تدعو إلى الانخراط في المسيرة الوطنية التي يخوضها المتصرفون بالرباط    الإعلان عن تأسيس تكتل سياسي جديد    بلعريبي: "عدل 3 سينطلق قريباً وسيساهم في رفع عدد السكنات"    إندونيسيا: إعلان حالة التأهب تحسبا لمزيد من الثورات البركانية    ليفربول يرفض انتقال المصري محمد صلاح للبطولة السعودية    إيطاليا تضمن 5 مقاعد في دوري أبطال أوروبا الموسم المقبل    قطاع المجاهدين "حريص على استكمال تحيين مختلف نصوصه القانونية والتنظيمية"    انخفاض عبور سفن الحاويات في البحر الأحمر بأكثر من 50 بالمئة خلال الثلاثي الأول من 2024    تفاصيل بطاقة الشفاء الافتراضية    بلعريبي يتفقد مشروع إنجاز المقر الجديد لوزارة السكن    عميد جامع الجزائر يستقبل المصمم الألماني لهذا الصرح الديني    حوادث المرور: وفاة 62 شخصا وإصابة 323 آخرين في حوادث المرور خلال أسبوع    رخروخ: زيادة حظيرة المركبات تفرض استعمال تقنية الخرسانة الاسمنتية في إنجاز الطرق    الإذاعة الجزائرية تشارك في أشغال الدورة ال30 للجمعية العامة ل"الكوبيام" في نابولي    فلسطين: 50 ألف مصلي يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى المبارك    تصفيات مونديال أقل من 17 سنة/إناث: المنتخب الوطني ينهي تربصه التحضيري بفوز ثانٍ أمام كبريات الجزائر الوسطى    وزارة الثقافة الفلسطينية: العدوان الصهيوني على غزة دمر 32 مؤسسة ثقافية كليا وجزئيا    كرة اليد/كأس إفريقيا للأندية: إحتراف نادي الأبيار التحدي الجديد للإدارة    كرة اليد/بطولة إفريقيا للأندية: حفل إفتتاح بهيج، بألوان سطع بريقها بوهران    تجارة: زيتوني يترأس إجتماعا لتعزيز صادرات الأجهزة الكهرومنزلية    هيومن رايتس ووتش: جيش الإحتلال الصهيوني شارك في هجمات المستوطنين في الضفة الغربية    وزير الاتصال : منع دخول الصحفي فريد عليلات الى الجزائر لا يتعلق به كمواطن بل كمبعوث للوسيلة الاعلامية التي يشتغل فيها    "مشروع تحويل المياه من سدود الطارف سيحقق الأمن المائي لولايتي تبسة و سوق أهراس"    وزير الصحة يشرف على لقاء لتقييم المخطط الوطني للتكفل بمرضى انسداد عضلة القلب    مسار إستحداث الشركة الوطنية للطباعة جاري    كأس الجزائر: رباعي محترف يلهب الدور نصف النهائي    سطيف: ربط 660 مستثمرة فلاحية بالكهرباء    أكاديميون وباحثون خلال ملتقى وطني بقسنطينة: الخطاب التعليمي لجمعية العلماء المسلمين كان تجديديا    أرسلت مساعدات إلى ولايات الجنوب المتضررة من الفيضانات: جمعية البركة الجزائرية أدخلت 9 شاحنات محمّلة بالخيّم و التمور إلى غزة    وزير الاتصال و مديرية الاعلام بالرئاسة يعزيان: الصحفي محمد مرزوقي في ذمة الله    الحكومة تدرس مشاريع قوانين وعروضا    مجمع سونلغاز: توقيع اتفاق مع جنرال إلكتريك    68 رحلة جوية داخلية هذا الصيف    عون يؤكد أهمية خلق شبكة للمناولة    هذا موعد عيد الأضحى    استحداث مخبر للاستعجالات البيولوجية وعلوم الفيروسات    توقعات بمستوى عال ومشاركة جزائرية مشرفة    ضرورة جاهزية المطارات لإنجاح موسم الحج 2024    مكيديش يبرر التعثر أمام بارادو ويتحدث عن الإرهاق    انطلاق أسبوع الوقاية من السمنة والسكري    أوامر وتنبيهات إلهية تدلك على النجاة    عشر بشارات لأهل المساجد بعد انتهاء رمضان    وصايا للاستمرار في الطّاعة والعبادة بعد شهر الصّيام    مع تجسيد ثمرة دروس رمضان في سلوكهم: المسلمون مطالبون بالمحافظة على أخلاقيات الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السلطة الطبنفسية Le pouvoir-psychiatrique
نشر في الجزائر نيوز يوم 09 - 08 - 2010


تقديم:
يعتبر كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي بمثابة حفريات القِسْمَة Lصarchéologie du partage التي ترجع إليها فكرة انفصال المجنون عن اللا-مجنون Le non-fou داخل مجتمعاتنا· إنه ينجز عرضا مفصلا عن علاجية الجنون في بداية القرن التاسع عشر، ولقد خصَّ له ميشال فوكو Michel Foucault دروسه التي ألقاها ب''كولاج دي فرانس'' سنة 1973 وبداية سنة ,1974 وتناول فيها السلطة الطبنفسية Le pouvoir-psychiatrique (تم إصدارها ضمن كتاب، في شهر أكتوبر 2003)، يواصل فوكو عبرها مشروعه عن تاريخ الجنون، ويتعلق الأمر بالنسبة إليه بتوجه جينيالوجي للنفسانية وبصورة خاصة للسلطة المعرفية التي يؤسسها·
ولأجل ذلك فإنه سيبدو من المستحيل البدء مما يظهر عليه العلاج المعرفي للجنون، لأنه لا فائدة ترجى من هذه المحاولة، كما لا يمكننا أن نعرض مدى صدق الطبنفسية حول الجنون بدء من أجهزة أو تقنيات السلطة التي تشرف على تنظيم علاج المجانين، وتبدأ هذه المرحلة تحديدا ب''بينيل'' Philippe Pinel وتعرف نهايتها ب ''شاركو'' Charcot، فالطبنفسي لم يعرف ميلاده نتيجة للتقدم المعرفي الجديد حول الجنون فحسب، وإنما كان ظهوره مرتبطا بالأجهزة الانضباطية التي بفضلها تنهض العملية التنظيمية داخل المصح العقلي (Asile) وهذا ما سيتم التطرق إليه من خلال ترجمتنا لدرس فوكو·
غالبا ما كان فوكو يتساءل عن مدى سذاجة وسطحية خطاب النفسانيين المرتبط في الكثير من الحالات بالممارسات المعاصرة للاحترافية القضائية، وانطلاقا من هذه الملاحظة سيكون درس: السلطة-الطبنفسية متبوعا بمشروع فوكو حول ''تاريخ العلوم الإنسانية'' وسينجز حفرا في ذلك الادعاء الطبي الغريب حول النفسانية التي لم تكن سوى جهازا ضروريا يمَكن المحلل النفساني من تطبيق سلطاته على المريض، إذ ينفرد بلعب لعبة الحقيقة لوحده دون سواه (Jeu de vérité) ويجد الطبيب نفسه لحظتها محكوما عليه بالقيام بدور إنتاج الخطاب عبر جسد المريض، ويقدم كإمكانية لعلاجه·
يعتبر القرن التاسع عشر اللحظة التي يكتمل فيها درس فوكو المقدم حول ''السلطة-الطبنفسية'' لكونه ينجز فترة مزدوجة لل ''لا-نفساوية'' (1)dépsychiatrisation ، فالجنون لعبة مزدوجة موزعة ما بين الطبنفسي وعلم الأعصاب، لكن في ملخص درس فوكو الذي قام بتحضيره وإنجازه لحولية: ''كولاج دي فرانس'' نجد في هذا التحضير أهم العناصر التي لم يتمكن فوكو من تقديمها أثناء عرضه وإلقائه للدرس، هكذا إذا، فإن السلطة الطبنفسية ستتجه إلى درجة اقتراح عندها جينيايلوجيا للحركة الضد-نفسانية (1)Anti-psychiatrique. إن درس السلطة - الطبنفسية يحمل تفرداته الراهنة لأنه يذكرنا بحدث قريب منا: المتعلق بالمؤتمر الوطني المنعقد في ماي 2003 بمونبولييه Montpellier والذي ضم نفسانيين يحملون هاجسا مشتركا هو البحث عن مستقبل حركتهم الآيلة إلى الاختفاء والزوال·
ننشر هاهنا موجز الدرس الذي ألقاه ميشال فوكو ب ''كولاج دي فرانس'' يوم 09 جانفي 1974 - فرانسوا إيلواد François Elwad
الدرس:
ما الذي يريد الوسم الطبي Le marquage médical التأكيد عليه حينما يشير إلى السلطة-الطبنفسية؟ ولماذا ينبغي أن تنجز مثل هذه السلطة من قِبَل الطبيب؟ أعتقد أن الوسم الطبي داخل المصح العقلي يعكس فعليا الحضور الجسدي، الفيزيائي للطبيب، حضورا كلّيا إذ من الضروري أن يتواجد جسد الطبيب في كل أبعاد المصح العقلي وهو بصورة عامة يعتبر الفضاء الاستشفائي ممثلا في جسد النفساني· إن المصح العقلي هو هذا الجسد الملقى والممتد والمحمول في كل أبعاد المؤسسة، ممتدا إلى درجة أن سلطته تمارس وكأن كل جزء من المصح العقلي تعكس بدورها جزء من جسد النفساني الخاص به، والموجه من طرف أعصابه الخاصة، ويمكنني القول أن تمثّل جسد النفساني للمكان وللفضاء الاستشفائي يتجلى في صفات عديدة و مختلفة:
في البداية يُستَجوَبُ الالتقاء بالمريض الذي سيغدو منطقة عبور لكل العناصر العلاجية وممثلة في حقيقة الأمر، فيجسد النفساني في ذاته الذي يلتقي بدوره بالمريض سواء يوم التحاقه بالمصح العقلي أو يوم بداية الإشراف على علاجه، ويفترض في جسد النفساني خلوه من العيوب والنقائص بغرض تحقيق التأثير الفاعل على المريض ويكون جسده (أي النفساني) متماثلا بصورة دائمة أمام جسد المريض كواقع ملموس وحقيقة محسوسة، بالإضافة إلى ذلك يعتبر جسده المَمَر الذي تمر عبره حقيقة كل الحقائق الأخرى، إنه الجسد الذي ينبغي أن يخضع له المريض·
ثانيا: على جسد النفساني أن يعرف تواجده في كل أنحاء المصح العقلي، فلقد تم حساب الهندسة المعمارية للمصح بالكيفيات التي تكمّن الطبيب بأن يكون افتراضا في كل مكان وأن يستوعب جسده كل أبعاد المؤسسة، هذا ما حدده بالضبط إسكيرول Esquirol وبارشاب Parchappe وجيرار دي كايو Gérard De Calleux في دروسهم المقدمة ما بين 1830 و,1840 فعلى الطبيب أن تكون له القدرة على رؤية كل شيء ولا تفوته صغيرة ولا كبيرة إلا وأحصاها وأن يراقب الحالات المرضية التي يشرف عليها في جولة واحدة وبملاحظة دقيقة ويجب أن تكون له القدرة بالإضافة إلى ذلك على إعادة معاينة المؤسسة والمرضى بنفسه، وينبغي أن يرى ما لا يرى· كما يجب على المراقبين أن يمنحوا له إمكانية رؤية هذا المتعذر رؤيته وهم في الوقت ذاته ليسوا إلا كائنات منقادة لسلطة الطبيب وعليهم (أي المراقبين) إثبات وتثبيت حضوره الدائم والمطلق واللا-منقطع داخل المصح العقلي المحاصر بنظره وبسمعه وبحركاته·
فمن الضروري أن يتواصل جسد الطبيب مباشرة مع كل عناصر وأعضاء المؤسسة الاستشفائية، فما المراقبين في الأصل إلا دواليب، فهم مجرّد أياد تستعمل كآلات وأجهزة متواجدة بين يدي الطبيب النفساني، وقد أشار جيرار دي كايو G. De Calleux الذي كان من أبرز الرواد المنظمين للمصحات العقلية المشيدة على الضواحي الباريسية بدء من سنة 1860: ''إنه وعبر تراتبية ممتدة من تكثيفات مقدمة من طرف الطبيب يتم التواصل مع كل أعضاء الخدمات ويعتبر الطبيب المنظم الوحيد داخل المصح العقلي، أما الآخرون فهم مجرّد تابعين له وهم بمثابة دواليب أساسية ومهمة''· أعتقد أنه بإمكاننا القول بأن جسد النفساني هو المصح العقلي ذاته، وتمثل لعضويته Son organique، إنها شيء واحد والشيء نفسه في الوقت ذاته، وهذا ما أكّد عليه إيسكيرول Esquirolفي إحدى مقالاته الموسومة ب''الأمراض العقلية des maladies mentales:'' على الطبيب أن يكون وبصورة معينة مبدأ الحياة داخل المصح العقلي، إذ من خلاله يتم وضع كل شيء في حركة ونشاط، أين نجده يعمل بمثابة موجه كل الحركات ومقوّما للأفكار باعتباره مركزا وإليه يجب أن يرجع كل ما يهم السكان المقيمين داخل المصح العقلي''·
إن أهمية التوسيم الطبّي للمصح العقلي تكمن في ذلك التأكيد الذي يشير إلى ضرورة أن يغدو المصح العقلي وبفضل الطبيب مكانا للعلاج، وهذا بدوره يعني أولا: بأنها تعتبر أولى طبقات الدلالة التي تَمَكَّنَّا من استنتاجها، فعلى المريض أن يجد نفسه أمام جسد متواجد وبصورة معينة دائما معه، إلى أن يصبح منغلقا عليه داخل جسد الطبيب، وتم طرح مشكلة معرفة: من الذي يملك الأحقية في تسيير المصح العقلي، هل المسير الإداري أم الطبيب ؟
ويجيب الأطباء مؤكدين ولقد أصبحت هذه الإجابة الحل الذي تبنته فرنسا أنه على الطبيب أن يأخذ بزمام المبادرة في تحقيق مثل هذه المهام، وسيكون له شرف الأخذ بمبدأ المسؤولية باعتباره مديرا على المصح العقلي، لكن من الضروري في الوقت ذاته أن يتواجد شخص آخر مكلف بمهام التسيير الإداري والمالي، على أن يبقى بدوره تحت مسؤولية ومراقبة الطبيب· لكن لماذا الطبيب تحديدا؟ الجواب: لأنه يعرف، لكن يعرف ماذا؟ مادام وبصورة دقيقة سلطته الطبنفسية ليست المعرفة ذاتها التي يتم توظيفها من طرف الطبيب لحظة توجيهه للنظام داخل المصح العقلي؟ إذ كيف بإمكاننا القول أنه ينبغي أن يكون الطبيب موجودا كيما تتم عملية تسيير وتوجيه المصح العقلي لمجرّد أنه يعرف؟ ولماذا تبدو هذه المعرفة ضرورية؟ إن الذي يعتبر ضروريا للقيام بعمل جيد داخل المصح العقلي هو ما يمكننا من إنجاز وسم طبي، وهذا ما يحقق أثرا للسلطة الإضافية المقدمة من طرف ترسيمات المعرفة Les marques de savoir وليس من طرف مضمونها، بكيفية أخرى يمكننا القول أنه وعبر لعبة الترسيمات وحدها ومهما كان مضمون تأثير هذه المعرفة سيتم استعمال السلطة العلاجية كسلطة طبية بصورة ضرورية داخل المصح العقلي، لكن فيما تكمن ترسيمات هذه السلطة؟ كيف يمكننا تصور لعبها داخل هذا القبل مصح عقلي Proto-asilaire في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر؟ وكيف غدت عليه بعد ذلك؟ بإمكاننا هاهنا متابعة وببساطة السلسلة التي بفضلها تلعب المعرفة دورها داخل نظام وعمل المصح العقلي· لكن هل يمكننا تقديم تفسير عن السبب الذي يجعل المهمة مقتصرة عن الطبيب وحده ؟ لماذا لا يمكن أن يؤدي مثل هذه المهام أي مدير آخر؟ لماذا ينبغي أن يكون هذا الجسد المنتج للسلطة هو الجسد الذي تمرّ عبره كل حقيقة هو جسد الطبيب تحديدا؟
كثيرا ما طرح هذا الموضوع وبصورة متكررة لأجل النقاش، لكن لم يتم ولحد اليوم تناوله بجدية وبكيفية مغايرة التي تمكنه من بلوغ أهدافه مباشرة إذ نجد تارة في نصوص القرن التاسع عشر التأكيدات المتكررة الجاعلة من الطبيب المبدأ الذي يوجه ويسيّر المصح العقلي وفي غياب تسييره تغيب كلية المهام والوظائف العلاجية، ثم تلاحظون تارة أخرى مدى صعوبة تطبيق مثل هذا المبدأ المولد باستمرار القلق، إنه ومادام الأمر يتعلق بمؤسسة انضباطية ويكفي إذا أن يكون هناك إداري جيد وبارع· لقد كان هناك ولمدة طويلة صراع دائم ما بين المدير الطبي للمصح العقلي، الذي ترجع إليه المسؤولية العلاجية وبين من لديه المسؤولية على مستوى مكتب الإدارة والإدارة الشخصية للتسيير·
كثيرا ما كان بينيل Pinel قلقا، مرددا القول بأنه: ''في الأصل موجود داخل المصح العقلي لأجل علاج المرض لا غير، ولكن أجد نفسي في نهاية المطاف مضطرا إلى الاعتماد على تجارب الحارس أو البواب أو المراقب لبيسيتر Bicètre ولقد أدرك بوسان Pusin هذه الحقيقة فمنحتني تجاربهم من امتلاك تجربتي الخاصة، داخل المصح العقلي ومن معرفة ما تعلمته'' وستجدون كل هذا حاضرا على مدى سنوات القرن التاسع عشر·
أولا يقول بينيل Pinel: / حينما تتوجهون إلى المريض يالاستجواب interrogation فإنه ينبغي أن تكون لديكم معلومات حول شخصه، ومعرفة سبب قدومه إلى المصح العقلي، والقيام بتحريات عن حقيقة مجيئه والبحث عن سيرته الذاتية قبل التحاقه بالمصح العقلي والتوجه بالإضافة إلى ذلك بالاستجواب إلى عائلته وكل من كانوا يحيطون به، ونقوم بعدها باستجواب المريض بالكيفية التي تجعله يعتقد أننا نعرف الكثير عنه، وأن يدرك بأننا نعرف عنه أكثر مما هو يتصوّر، إذ وفي اللحظة التي يقوم بتقديم فيها بعض المعلومات نوهمه بأنه لم يقدم شيئا مهما وعندئذ نتمكن من التدخل بحيث نجعله يدرك أننا نعرف عنه أكثر مما يعرف هو عن نفسه''·
ثانيا: تقنية الاستجواب النفسانية مثلما تم تحديدها نظريا وعمليا من قبل بينل وقد سبقه في ذلك الطبيب إيسكيرول Esquirol والذي يعتبر من الرواد البارزين الذين أكدوا على هذه التقنية، أنه لا يمكننا أبدا تملك واستيعاب المريض بكيفيات محددة، إذ ثمة بعض المعلومات التي قد تتوفر عليها حول المريض، فإذا كان صحيحا لأنه وعن طريق الاستجواب فعلا يمكننا الحصول على معلومات أفضل فإنه ينبغي أن نجعل منه التقنية التي يمتنع عندها المريض عن قول ما يريد التعبير عنه، إذ تكفي تقنية الاستجواب من جعله يجيب فقط على الأسئلة المطروحة عليه، هذا ما يمكننا أن نعتبره نصيحة مهمة لكنها مقلقة: لا يترك أبدا المريض ينسج حكاية مرضه، وإنما ينبغي قطع الطريق عليه من خلال توجيه بعض الأسئلة التي تجعل المريض يدرك أن إجاباته لا تقدم شيئا جديدا إلى الطبيب وينبغي في الوقت ذاته أن نمنح له فرصة التوضيح، إذ يجب أن يدرك أن كل إجابة تحمل دلالة داخل حقل المعرفة، التي سبق وأن تم ترسيخها في ذهن الطبيب، فالاستجواب ليس إلا مجرّد طريقة لنقل وبحذر المعلومات التي يتحصل عليها الطبيب من المريض، والقيام بتبديلها ومنه يتم إحلالها هاهنا لعبة الدلالات التي تقوم فيما بينها·
ثالثا: إنه ولأجل تكوين الترسيمات المعرفية Les marques du savoir التي سيستثمرها الطبيب باعتباره طبيبا، فإنه ينبغي مراقبة المريض دون انقطاع وتشكيل حوله ملف طبي دائم ويجب في كل لحظة وخاصة عندما تكون لدينا القدرة على إثارة موضوع المريض أن نظهر بأننا نعرف كل ما قام به من أفعاله وما قاله من أقوال، ونضعه دائما موضع الخطأ كيما تستوجب عقوبته· الأمر إذا يتعلق بعملية تنظيم ووضع نظام شامل للكشف والفحص تكون تحت تصرف ومسؤولية الطبيب باعتباره الوحيد القادر على جمع ملاحظات دقيقة حول المريض داخل المصح العقلي·
رابعا: ينبغي القيام دائما بلعب دور مزدوج، العلاج والتوجيه· فحينما يرتكب المريض فعلا ما وتكون لدينا الرغبة في حجزه (حبسه) أين سيتوجب معاقبته، فإنه بإمكاننا أداء مثل هذه المهمة شريطة أن نجعل المريض يعرف أننا نفعل ذلك (أي نعاقبه) لأنه أمر ناجع ومفيد وضروري للعملية العلاجية، ومنه يجب معرفة الكيفية التي يغدو معها العقاب دواء، وجعل المريض يدرك أن هذا ينفعه ويمكنه في آن معا من الاعتقاد بأننا نزعجه ونعاقبه كيما نعالجه· إن علاج الطبيب يحمل ازدواجية، فهو دواء من جهة، وداء من جهة أخرى· إنه يجمع بين العلاج والعقوبة·
ثمة عنصر أخير أعتقد أنه مهم جدا لكونه يقدم وبواسطة الطبيب ترسيمات المعرفة داخل المصح العقلي، تلك الترسيمات المتمثلة في اللعبة الكبرى، والتي كان لها الأهمية البالغة في تاريخ الطبنفسي للعيادة· إن هذه الأخيرة تجعل المريض ضمن عملية البوح والإخراج، يغدو معها الاستجواب عنصرا مكونا للطلبة لا غير، لحظتها سيجد الطبيب نفسه يلعب لعبته المزدوجة: فهو من جهة يقوم بمهام الفحص، فحص المريض، ومن جهة أخرى يقوم بمهام الإشراف على الطلبة والقيام بتدريسهم: أين يغدو الشخص الذي يشرف على العلاج والحامل الوحيد لكلمة الأستذة في آن معا، إنه الطبيب والأستاذ وأنتم تلاحظون أن هذا النوع من الممارسة العيادية تم ترسيخها نهائيا وبكيفية مستعجلة ضمن التطبيقات الاستشفائية إذ ومنذ 1817 بدأ إيسكيرول Esquirol بتطبيق أول ممارساته العيادية بالمصح العقلي سالبيتريير Salpétrière ومع بداية سنة 1830 بدأ وبصورة منتظمة إنجاز التدريس العيادي المقدم بداخل المصح العقلي بيسيتر Bicètre وسالبيتريير وكان على كل رئيس مصلحة ومنذ سنوات 1830 و1835 استعمال هذا النظام للعرض العيادي حتى وإن لم يكن أستاذا، أي أنه مطالب بإنجاز اللعبة التي تقوم على عنصرين: شخص الطبيب وأداء الأستاذ، لكن لماذا أصبحت العيادة بمثل هذه الأهمية والضرورة؟ لديكم في الواقع أحد أبرز الرواد الذين طبقوا العيادية مقدما نظرية رائعة، إنه جون بيير فالري J.P.Falret كيف ولماذا ينبغي استعمال الطريقة العيادية؟
أولا: على الطبيب أن يُظهر للمريض أنه محاط بالعناية والرعاية داخل المصح العقلي، وأن كل من هم متواجدون بداخله مستعدون للاستماع إليه وقد يكون كلام الطبيب مرفوضا احتماليا من قبل المريض وهو لا ينتبه إلى مثل هذه النتيجة نهائيا، إذ لا يمكن التأكد ما إذا كانت مسموعة وهي كذلك مسموعة باحترام من طرف عدد من الناس فمع حضور المستمعين ستعرف سلطة الكلام ارتقاءها، فحضور الجمهور بتعدده واختلافه بإمكانه أن يقدم الشيء الكثير لسلطة ونفوذ الكلام·
ثانيا: إن العيادة مهمة ليس لأنها تسمح للطبيب باستجواب المريض فحسب بل لكونها وفي اللحظة التي يستجوب الطبيب المريض ويعلق على أجوبته يظهر للمريض ذاته أنه بدأ يتعرف جيدا على حقيقة مرضه وبدأ يعرف عنه الكثير، وبإمكانه الحديث عنه بدون حرج والقيام بإنجاز عرض نظري عنه من طرف الطبيب أمام طلبته، فنظام الحوار الذي يحظى به المريض من قِبَلِ الطبيب سيسفر عن تغير من طبيعة المريض أمام أعين الطبيب وسيفهم أنه ثمة شيء ما يحمل حقيقته المقبولة من طرف الكل والذي بدأ يعرف تشكله في كلام الطبيب·
ثالثا: العيادة مهمة لكونها لا تشتمل فقط على الأسئلة المطروحة بانتظام على المريض لكن بإنجاز أمام الطلبة جردا وحصرا عاما لسوابق الحالة المراد معالجتها وسنكون مضطرين إلى تكرار أمامهم كل ما يتعلق بحياة المريض، وسنجعل هذا الأخير يتكلم، وفي حالة امتناعه عن الكلام فسيقوم الطبيب بأداء مثل هذه المهمة عوضا عنه، وفي نهاية المطاف فإن المريض سيرى أن الأمور تجري أمامه سواء بمساعدته للطبيب حينما يتكلم أو بعدم مساعدته له حينما يصمت وحاول الانغلاق داخل صمته، المهم سيرى حياته الخاصة وقد بدأت أحداثها تجري أمامه وكأنه أمام عرض سنيمائي، عرض الأحداث التي تعكس فعليا حقيقة مرضه، وهي كذلك لكونها ستعرض أيضا ك ''مرض'' أمام الطلبة الذين هم في حقيقة الأمر طلبة طب·
وأخيرا إنه وفي لعب الطبيب هذا الدور وقبوله وموافقته أن يكون في مقدمة المشهد مقدما عرضا مفصلا خاصا بحالة المريض وبطبيعة مرضه والإجابة عن الأسئلة سيشعر المريض لحظتها كما يشير فالري Falret: إنه يقدم خدمة جليلة إلى الطب ومنه سيكون أهلا للمكافأة من طرف الطب· تلاحظون إذن أن المهيمن العظيم على السلطة الطبنفسية أو بالأحرى ذلك الذي يمثل بالنسبة إليها المكبر الضخم والذي يقوم بنسج خيوط الحياة اليومية داخل المصح العقلي، وسيكون بمثابة الطقس Le rite الشهير للعرض العيادي للمرض، هاهنا تكمن الأهمية المؤسساتية البالغة للعيادة، حول ذلك الذي تمثله الحياة اليومية للمصحات الطبنفسية منذ سنوات 1830 إلى يومنا هذا، بما أنه سيتم وعبر العيادة إنشاء فكرة الطبيب مُعَلم الحقيقة وسيدها Le maître de la vérité وستغدو الشهادة والحكي تقنيتين إجباريتين ومؤسستين ويصبح التحقيق عن الجنون كمرض، الحلقة الرئيسية والضرورية يدخل المريض بفضلها في نظام المصلحة والإشباع المقدمات من طرف معالجه (الطبيب)·
هكذا إذا فأنتم ترون الترسيمات المعرفية الكبرى وتفهمون جيدا كيف تعمل داخل العيادة، فليس مضمون هذه المعرفة هو الذي يمكن المجنون من أن يتصرف كأنه طبيب، وإنما عبر هذه الترسيمات وحدها بإمكانه أن يغدو طبيبا داخل المصح العقلي، كما تمكنه وبالإضافة إلى ذلك من فرصة ممارسة سلطة مطلقة وفائقة Sur-pouvoir-absolu داخل العيادة· وإن يتماثل في نهاية المطاف مع جسدها، فوحدها العلامة المعرفية تمنح له فرصة جعل المصح العقلي جسدا للعلاج، حينما يغدو جسده طبيًّا يعالج بعينيه وبأذنيه وبسلوكاته وبدواليبه، ويمكن في الأخير لترسيمات المعرفة أن تمنح بدورها للسلطة الطبنفسية من لعب دور المؤثر والمعزز للحقيقة، وتلاحظون في المشهد العيادي كيف تم إدراج هذه الترسيمات ضمن ورشات العمل· فالأمر إذا لا يتعلق أبدا بمضامين المعرفة بقدر ما هو مرتبط كلية بترسيمات المعرفة التي وعبرها تلاحظون في الوقت ذاته لعبة اللا مسات الأربعة للحقيقة التي سبق وأن أشرت إليها والمتمثلة في: السلطة الفائقة للطبيب، قانون الهوية، الرغبة غير المقبولة للجنون وأخيرا قانون المالية· وعبر هذا التماثل ما بين جسد الطبيب النفساني وبين المكان الاستشفائي، فإن لعبة الترسيمات المعرفة بصورها الأربعة للحقيقة والتي تمر عبر ذاتها فإنه بمستطاعنا تعديل المعلومة حول الشخصية الطبية الموجودة ضمن القطب المعاكس لشخصية طبية أخرى تتماثل أمامه، إذ وفي هذه اللحظة بالذات يتم امتلاك وحيازة الوجه الجديد بصورة كلية، ذلك المرتبط بشخص الجراح Chirurgien إنه القطب الجراحي الذي بدأ بدوره في رسم ملامحه مع ما عرفته الجراحة المرضية من تطور· لنَقُل إذا: إنه ومنذ بيشاBichat بدأ التأثير بمضمون المعرفة، الأمر الذي يتعلق بفحص داخل جسد المريض قصد الكشف عن بعض الحقائق المرضية والاستفادة بصورة خاصة من يديه ومن جسده بهدف القضاء والتخلص من الشر نهائيا· وفي أقصى جوانب هذا الحقل، فإنكم ستجدون قطب الطبنفسي يلعب وبكيفية مختلفة تماما تلك اللعبة التي تميزه بدء من ترسيمات المعرفة وليس بدء من مضمونها، تبدأ الشخصيات تعرف فضاءاتها العلاجية وأصبح لها القدرة على جعل الفضاء الاستشفائي يعمل كجسد يعالج بحضوره الخاص والمميز بتصرفاته بإرادته الخاصة، فعبر هذا الجسد يتمكن من تقديم إضافة لسلطة الحقيقة التربيعية .Quadruple
على العموم أنتم ترون أنه قد وصلنا نوع من المفارقة لمؤسسة متميزة بفضائها الانضباطي وبأجهزتها التي تختلف بالضرورة عن باقي المؤسسات الانضباطية الأخرى لكن هذا الوسم الطبي وبالمقارنة مع كل الفضاءات الانضباطية يبقى الفضاء الاستشفائي على الدوام بمنأى عن لعب أدواره قصد إنجاز معرفة نفسانية داخل المصح العقلي والتي بإمكانها أن تغدو نظرية قائمة بذاتها، ولقد وضع الوسم الطبي في حقيقة الأمر في مكان ينجز لعبته ما بين جسد المجنون المنقاد والخاضع والمهيمن عليه وبين الجسد المؤسسي الممتد إلى كل أبعاد المؤسسة النفسانية· ينبغي إذا أن ينظر إلى المصح العقلي على أنه الجسد النفساني، فهو ليس مجموع القوانين التي يتأثر بها الجسد بالمقارنة مع الجسد المنقاد، جسد المجنون ذاته داخل المصح العقلي·


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.