خدمة قيم الدولة الجزائرية الانتقال إلى التّعددية الإعلامية في الجزائر خلال التّسعينات، كان متسرّعا غير مبني على قراءة استشرافية لما بعد هذا الانفتاح الذي لم يرافقه الإطار القانوني القادر على الإطاحة بكل التداعيات الناجمة عن هذه التّجربة وهي في طريقها. هذه التّغطية أو الحماية بواسطة ترسانة من النّصوص المسيّرة لهذا القطاع في تداعياته، للأسف كان غائبا، وأحيانا متعمّدا من قبل لوبيات وجماعات الضغط آنذاك التي كانت تتحرّك باسم «حركة الصّحافيّين الجزائريّين»، ورموزها آنذاك كانوا معروفين على السّاحة، أرادوا الخروج ممّا أسموه بالأحادية الإعلامية مهما كان الأمر وفي أقرب وقت. وهكذا وبواسطة تعليمة تقرّر فتح هذا المجال الحسّاس بدعوة الصّحافيّين العاملين في المكتوب إلى إنشاء يوميات خاصة، وهذا باقتطاع أجورهم ونقلها كرأسمال إلى المشروع الجديد. وهكذا اختلط الحابل بالنّابل، وساد التردد في أوساط الصّحافيّين الذين يوميا تنزل عليهم اقتراحات قصد الذّهاب إلى العناوين الجديدة أو يسمعون عن ميلاد جرائد أخرى هنا وهناك يقف خلفها فلان وعلاّن وصدورها يكون قريبا. وهناك العديد من الصّحافيّين في الإعلام العمومي من فضّل المغادرة وخوض تجربة ثانية في حياته المهنية بعد سنوات طويلة تعود إلى السبعينات والثمانينات، اكتسبوا خلالها الخبرة بجدارة واستحقاق نظرا لمستواهم العالي، ونقصد هنا قدرتهم الفائقة في إدارة الشأن التّحريري أي كل ما يتعلّق بالكتابة (الخبر، التّعليق، المقالة، التّحقيق، الحديث، التّقرير..) بمعنى الإبداع في الأنواع الصّحفية. وذهبوا إلى الإشراف على هذه «المواليد» بهذه الذّهنية المنحصرة في هذا الآداء المحدود، ليجدوا أنفسهم يسيّرون «مشاريع إعلامية» وهم لا يفقهون أي شيء فيما يعرف «بالمناجمنت» و»الماركيتينغ» و»الاشهار» و»الإدارة»، ولم يحضروا ذواتهم لذلك لم يتلقّوا أي تكوين في هذا الاختصاص السّالف الذكر، لذلك استعانوا في أول الأمر بمحاسبين، الذين أعدّوا لهم دراسة ما يعرف بالجدوى التي تعطي التصور العام للعنوان خاصة في جانبه المالي، وبالرغم من كل هذا العمل التقريبي الذي يدور حول التوقعات فإنّ إرادة اقتحام هذا الفضاء كانت حاسمة وفاصلة لا يمكن أو بالأحرى يستحيل التّراجع عنها. مفارقات المرحلة وهكذا كانت البداية صعبة جدا ومعقّدة إلى درجة لا يمكن تصوّرها، والكثير وجد نفسه في موقع مهزوز، وموقف حرج في تسيير هذا المشروع وهو صحافي بسيط في قاعة التّحرير، لم يكن مطلعا على خبايا وخفايا التّسيير وبقدرة قادر وجد نفسه كمسيّر ماذا يسير يا ترى؟ الأموال المرصودة غير موجودة، الاقتطاعات الأصلية ذهبت إلى الأجور والمطابع (وسط، شرق، غرب) مطابع الجنوب لم تنشأ بعد، وهكذا بدأت الأصوات تتعالى مطالبة بحقّها في الإشهار قصد انطلاق ونمو واشتداد عود هذه العناوين. وهكذا أقام هؤلاء الدنيا ولم يقعدوها بعدما تأكّدوا بأنّ الإشهار المصدر الوحيد لاستمراريتهم، وأنّ مداخيل المبيعات بعيدة كل البعد عن ما يأمله هؤلاء، ففي فترة وجيزة جدّا استجابت السّلطات العمومية آنذاك لهذه النّداءات الصّادرة وأغدقت عليهم بصفحات لا تعد ولا تحصى، أنعشت خزينتهم بشكل ملحوظ. وتغيّر المشهد الإعلامي المكتوب خلال التّسعينات في وقت قياسي، في غياب الإطار القانوني الذي تحدّثنا عليه سابقا. وأصبحت المبادرات الشّخصية تفرض نفسها عن طريق ممارسة الضّغط بواسطة ما كان يكتبه أصحاب العناوين في افتتاحياتهم عندما تعترضهم مشاكل معيّنة كانت عبارة عن رسائل مباشرة إلى الجهات المعنية. ولابد من الإشارة هنا إلى أنّ مؤسّسي هذه الصّحف جنوا أرباحا طائلة وخيالية جرّاء تدخّل الدولة لإنقاذ وضعهم المالي المتدهور والمزري خلال التّسعينات، لكنّهم في مقابل ذلك رفضوا تسديد ديونهم للمطابع، وحماية العمّال اجتماعيا، وترسيمهم بعد انقضاء الآجال القانونية ومنحهم أجورا زهيدة جدّا لأسباب شتّى، ضف إلى ذلك أنهم وسّعوا من استثماراتهم كما تقول أو توصي بذلك الأبجديات الاقتصادية. وللأسف لم تتوقّف حمّى إنشاء الصّحف بالرّغم من التّعديلات التي أدخلت على النّصوص المسيّرة لهذا القطاع الحيوي، وبادر العديد من الصّحافيّين إلى طرح عناوين جديدة في هذا الزّخم لم يكترثوا لأي تداعيات قد تؤثّر عليهم، المهم أن يتحوّلوا إلى «باترونات»، لكن ماذا خلفت هذه النّظرة المحدودة في الواقع اليومي؟ - أوّلا: أصبح الإعلام المكتوب مغريا لدى البعض في جانبه المادي والمعنوي، وهكذا حل أصحاب المال محل الصّحافيّين في إنشاء الجرائد، ممّا أدّى إلى انحرافات عديدة، منها توجيه الخط الافتتاحي نحو خدمة مسارات حزبية بدلا من الدولة الجزائرية. - ثانيا: لا يدري هؤلاء الأهداف المرجوّة من إنشاء هذه العناوين، ما عدا محاولة التموقع والصّدور من أجل الصّدور فقط. - ثالثا: تبذير لا حدود له في الورق، الصّفائح، المداد وغيره من مواد صناعة الصحف. - رابعا: إهمال كلي للعاملين وعدم التكفل بهم من الجانب المادي ممّا أدّى إلى تنقّل وهجرة يومية من عنوان لآخر. - خامسا: اللّهث الغريب وراء الإشهار، سواء لدى الجهة الرّسمية المكلفة بذلك «أناب» أو مطالبة ذلك مباشرة من المؤسّسات العمومية أو الخاصة (وكلات السيارات..متعاملو الهاتف النقال.. وغيرها). - سادسا: عدم توظيف أي كان ماعدا العاملين بالعقود أو القطعة، ومواصلة تقليص أكبر عدد ممكن من الموظفين لأسباب يدعي أصحابها بأنها «اقتصادية». هذا هو المناخ السّائد في إعلامنا المكتوب اليوم، وهو مقدمة لما يعانيه ماليا بحدّة غير مسبوقة يوحي بإصابته بما يعرف «بالأزمة الهيكلية» التي تواصل ملاحقته ما دام لم يتعاف زيادة على بلوغه الحلقة المفرغة في تسيير شؤونه اليومية، لا يفكّر في تطوير نفسه بقدر ما يفكّر في أحواله اليوم وغدا. وما ذكرنا عبارة عن عوامل واقعية رافقت هذه الصّحف منذ ميلادها، وما أصابها اليوم هو تحصيل حاصل وليس غريبا، كان متوقّعا أن تدخل هذا النّفق، والأرقام المقدّمة مؤخرا عن الغلق النّاجمة عن المشاكل المالية دليل قاطع عمّا قلناه سالفا. هذا التّشخيص القائم على خلفية تعود بها إلى قرابة ثلاثين سنة من دخول هذه التجربة ذات الولادة القسرية حيّز التّنفيذ، ومازال كل المعنيّين يبحثون عن ما يسمى بالأمثل، أي نموذج الإستقرار على الصّعيدين القانوني والمؤسّساتي، فهل بالإمكان تقييم هذا المسار؟ وأين نحن اليوم مقارنة بالأمس؟ أسئلة لا تنتهي وأحيانا لا تجد تلك الإجابة المبحوث عنها نظرا لتعقّد هذا القطاع، وبالضبط المكتوب الخاص، الذي يواجه وضعا صعبا ومحيّرا، نتيجة ما وصل إليه من تفكّك، يتحمّل مسؤوليته كل من اعتقد بأنّه مصدر ثراء دائم، دون مراعاة حد أدنى من الالتزامات مع صحافييه وعامليه، والمطبعة لا يدفعون الأجور ولا الديون، وهناك للأسف من توصّل به الأمر إلى إصدار منشوره لوحده دون فريق العمل، ولا يسحب العدد إلاّ عندما يتحصّل على مادة إشهارية، أما باقي الأيام يختفي عن الأكشاك تفاديا لمستحقّات الطّبع، هذا ما وصل إليه هؤلاء.
العمومي المكتوب..نحو تصوّر جديد يحمل الإعلام العمومي المكتوب رسائل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تخدم الدولة الجزائرية، وتنوّر الرّأي العام الوطني بعيدا عن الإثارة أو النّبش في خصوصيات النّاس، أو التّطاول على النّظام العام أو الإخلال به حفاظا على تماسك المجتمع، وعدم إحداث في لحمته أي شرخ يذكر. وهذه المهام المخوّلة له يترجمها عمليا الخط الافتتاحي للرّكيزة الإعلامية، في إبراز انشغالات السّلطات العمومية على أكثر من صعيد، وتقديم المعلومة والأخبار الصّحيحة التي تتفادى التّهويل والتّضخيم الذي لا يخدم مصلحة البلد. هذا لم يمنع أبدا السّلطات العمومية من مرافقة هذه الصّحف في جانب إعادة التّأهيل باتجاه الفعالية عن طريق أولا بالتّفكير مليّا في صيغ تسيير تخص المجمّع الذي تنضوي تحته الصحف العمومية، الإشهار والمطابع..والخيار الحالي يتوجّه إلى 3 مجمّعات كما ذكرنا سالفا (الجرائد العمومية، الإشهار، المطابع)، وهناك تفكير معمّق حاليا في هذا الشّأن يستند إلى قاعدة الجدوى، يظهر جليّا أي مباشرة عقب الانتهاء من عملية التّصفية التي تجري أطوراها اليوم لإعداد الصّيغة الثلاثية (الصّحف، إشهار، مطابع)، ويكون هذا في أقرب وقت ممكن ليدخل هذا التنظيم الجديد حيّز التّنفيذ لينطلق العمل بصفة رسمية. وتعلّق وزارة الاتصال آمالا عريضة في رؤية هذه المجمّعات ال 3 مجسّدة ميدانيا في آجال قريبة ليتوازى ذلك مع إقامة سلطة ضبط الصحافة المكتوبة ليكتمل هذا البناء الإعلامي الحيوي. واستنادا إلى لقاء يوم الأحد 9 أفريل 2017 انعقد بمقر الوزارة جرى تقييم مشروع إعادة تنظيم الجرائد العمومية، التي أقرّها مجلس مساهمات الدولة، وهكذا فإنّ ما تمّ الإشارة إليه هو إدراج ست جرائد عمومية (المجاهد، الشعب، المساء، أوريزون، الجمهورية والنصر) في مجمّع واحد، يشرف عليه رئيس مدير عام واحد، بالإضافة إلى مديرين تنفيذيين وفي نفس الإطار فإنّه تقرّر إنشاء مجمّعين وهما مجمّع اتصال يضم الوكالة الوطنية للنشر والإشهار ومجمّع للمطابع بنفس الصّيغة المتبعة (رئيس مدير عام ومديرون تنفيذيّون). وهذا ما يعكف عليه المصفّي الذي عين لهذا الغرض أي إعادة التّدقيق في أملاك المجمّع الأول، الذي كلّف بتصفيته وبناءً على التّقرير النّهائي يتم الشّروع في تنصيب المجمّعات ال 3 وفق ما تمّ منحها من إطار قانوني لا تخرج عن نطاق صفة المؤسسة العمومية الاقتصادية شركة ذات أسهم. من هنا تبدأ الانطلاقة من مسافة واحدة، وعلى قواعد تسيير جديدة لأنّ الواقع الرّاهن لهذه المجمّعات ال 3 لا ينفصل عن الحركة الاقتصادية في البلاد، خاصة في جانبها المالي. والمؤشّرات الحالية، تؤكّد وقائع مفادها أنّ سعر الورق سيرتفع إلى 85 ألف دينار للطن الواحد في السوق العالمي كون سعره الحالي 65 ألف دينار للطن الواحد، كما أنّ أسعار الصّفائح والمداد المستعمل سيعرف زيادة كذلك، فكم ستباع النسخة الواحدة للجريدة؟ هذه المعطيات المذكورة تكون مطروحة بحدّة أمام السّلطات العمومية للتّفكير في كيفية تسيير هذا الجانب الحسّاس انطلاقا من أنّ البعض من مؤسّسي الصّحف الخاصة قرّروا الرّفع من سعر جرائدهم، وأصبحت النّسخة الواحدة تباع ب 30 دينارا، مبرّرين ذلك بأن تكاليف صناعة صحفهم لا ترتقي إلى السّقف المطلوب، ويعتقدون إلى غاية اليوم بأنّ السعر المطبق لا يغطّي المصاريف ممّا يوحي بأنّنا مقبلون على زيادات أخرى، ويتحجّج هؤلاء بالنقص الفادح في الإعلانات والمبيبعات، خاصة مع وجود الطبعة الورقية على الأنترنيت، وعزوف القراء على اقتناء تلك الأعداد من الأكشاك، مفضّلين الاطّلاع عليها عبر مواقع الشّبكة العنكبوتية. وهذه العيّنة الموجودة اليوم في الواقع نوردها من باب الأثر الحاد النّاجم عن النّقص الفادح في المداخيل المالية، ممّا يحتّم اتّخاذ تدابير تتعلق بغلق باب التوظيف وهذا ما اهتدت إليه الجرائد عقب تلك الهزّة. لذلك، فإنّ التنظيم الجديد الذي يود أن يضفى على الإعلام العمومي المكتوب هو إدارجه ضمن مسار إصلاحي يحصّن الصحف والمطابع والإشهار من كل طارئ مستقبلا، وبناءً على كل ما خرجت به إجراءات التصفية للمجمّع، فإنّ الشّغل الشّاغل للجهات المسؤولة هو البحث عن الجدوى والفعالية في تسيير هذه المجمّعات ال 3 من الآن فصاعدا على أساس منطلقات مخالفة عن سابقيها، والسعي الحثيث لتحسين الآداء واحتلال الصّدارة في المشهد الإعلامي بالنسبة للصّحف من ناحيتي السّحب والمبيعات، وبهذا تقتحم ما يعرف بفضاء المنافسة في سوق شرس. ولابد من التّأكيد هنا بأنّ الصّحف العمومية الحالية تتمتّع بكفاءات عالية تسمح لها بأن تكون في طليعة الحضور الإعلامي في تقديم مادة ذات مصداقية تخدم الصّالح العام.