يمثل كتاب «زمن المتاهة.. سيرة روائية»، الجزء الثاني من السيرة الروائية للناقدة اللبنانية يُمنى العيد. وفيه تجمع نتفاً من ذاكرة تتقلب على صفيح حام من الحروب والهزائم والخيبات. سيرة يُمنى العيد تتشابه في حدودها المفرطة، كما تبدو في الكتاب، مع سير العديد من اللبنانيين الذي ترفعوا عن انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، وغالوا في رسم أحلامهم بدولة مدنية وعلمانية، لا تُقيم في سياستها حسابا للمحاصصة المذهبية، التي لا تزال إلى اليوم صيغة مُعتمدة في إدارات الدولة. تُعلن الكاتبة خيبتها فالعالم الذي صبت إلى تغييره لم يتغيّر «بل انتقل من سيئ إلى أسوأ وصار بعضنا أعداء البعض الآخر»، وبدل ان يكون النضال فرصة لتلاقي اللبنانيين ومواجهتهم للعدو الذي يحتل الأرض، تحولوا إلى أعداء مُتناحرين، وكان السقوط المدوي «في جُب الاقتتال الطائفي والمذهبي وصرنا نتذابح، ونُفجّر بيوتنا فوق رؤوسنا». تكتب يمنى العيد لأن الكتابة تُشعرها بالحياة، تكتب ضد القمع والدمار، كانت تأمل في انتصار المشروع الوطني أملاً في تحقيق العدالة الاجتماعية والتحرر من حكم الطوائف، لكن الانتصار والغلبة كانتا للموت والدمار واستباحة لبنان للتدخل العربي والأجنبي. سقط الحلم بدولة مدنية ديمقراطية، ترتكز على فكر علماني، «حاربها الأصوليون السلفيون وناهضتها الأنظمة الشمولية القائمة على العداء للديمقراطية». في طيات السيرة محطات، تتوقف عندها الكاتبة، تسترجع ملامح تلك الفترة الصاخبة من حياتها. فتعرض لمسيرة انتقالها من صيدا إلى العاصمة بيروت، بحثا عن بيت يؤوي العائلة ويحميها من رصاص المليشيات المتقاتلة. تستعيد كماً من الأحداث المقلقة والمؤلمة وعبر سيرتها التي تتوإلى فصولها في تزاحم السرد والتأملات، ثمة إيحاءات كثيرة تخرج عن نسبها الخاص، وتتشكل علامات فارقة من زمن الحروب والمآسي التي عاشتها بيروت. بيروت الحرب الأهلية والنزاعات الدامية والخوف وفقدان الرجاء والأمل، تُعيدها إلى باريس.. إلى أساتذتها في السوربون.. إلى رحلاتها بالمترو وزيارتها المتاحف والمكتبات، ومقاومتها فكرة إغراء البقاء في باريس. فعبر هذه الاستدعاءات تحاول ان تهرب من واقع المدينة المشرع على القنص والموت المجاني والحروب العبثية. وتعود بالذاكرة إلى صيف العام 1978، فتكتب عن تمادي الجيش السوري في إحكام سيطرته على بيروت وصيدا، وعن اقتحام الفلسطينيين والقوى الوطنية لبلدة الدامور وتهجير أهلها المسيحيين، عن اجتياح الجيش الإسرائيلي لجنوب لبنان. وسط متاهة الخوف والخراب والخيبة تعيش قلق الهوية والانتماء هي التي اختارت لنفسها اسم يمنى يُلاحقها الاسم الذي وُلدت به، ينازعها حريتها، رغبتها الجامحة في أن ترسم آفاقا لمسيرتها لا تنتهي عند حد أو أي مُعطى موروث ومُكرس بوصفها لختم الذي يُشير إلى هوية صاحبه. تتوقف بذهول أمام اجتياح إسرائيل عام 1982 للبنان ووصولها إلى العاصمة بيروت، تتذكر الطلقة الأولى وهدير الطيران المفاجئ وكانت قد أنهت للتو محاضرتها في الجامعة. وتنهي سيرتها بتوثيق عام للسفرات التي قادتها إلى الكثير من دول العالم وحضورها كمشاركة في المؤتمرات الفكرية والثقافية، من غير ان تغفل توثيق السيرة ببيانات انتقاداتها للهجمة التكفيرية التي أنهت حياة نخب من المفكرين. الحرب كما توضح، لم تعد نضالاً «إنها تتمخض عن جريمة قتل». وتتساءل عن الزمن الذي سيُتاح للبنان أن ينهض فيه بلداً ديمقراطياً موحداً.