ترى كيف سيكون شكل العالم والحياة لو غابت عنه الأحاسيس، ألا تشعر إلاّ بالمسؤولية والواجب؟ أيّ معنى لهذا العالم الذي صار أبيض وأسود ورماديا؟ عالم تغيب فيه الألوان، لا لشيء إلاّ لغرض القضاء على التمييز اللوني والعرقي، ولكن ذلك انسحب على كل ما حولنا من ألوان: ألوان الملابس، الطبيعة، الأثاث، الكون، وغيرها، كل شيء بلا ألوان، هذا ما يقدمه فيلم "المعطي" لفيليب نويس. ملامح الحياة الافتراضية في العام 2048، أتت في فيلم "المعطي" لفيليب نويس بلا ألوان ولا مشاعر، وهي قصة مستوحاة عن رواية الكاتب الأميركي لويس لوري، بنفس العنوان، والتي تمّ إعدادها للسينما على يد كاتبي السيناريو مايكل ميتنيك وروبرت وايد. هذا الفيلم المصنوع بعناية كبيرة وبحبكة درامية متقنة يقدم قراءة لواقع افتراضي، فالإنسان المعاصر ومع التقدم التكنولوجي الهائل صار يوما بعد يوم يهزم في معارك عدة، ولم يعد في مقدوره الإحاطة بكل تعقيدات الحياة، وصار ينزوي وينكفئ على ذاته أكثر من أي وقت مضى، إنه المجتمع الأحادي المعطوب الذي نشهد أمثلة كثيرة له في العالم الغربي، من خلال اختزال الأسرة والنأي بالنفس عن مسؤولياتها. وتأسيسا على هذه المعطيات الأولية نجد أن السرد الفيلمي يذهب بنا بعيدا جدا إلى ما سيؤول إليه هذا الواقع العالمي المعيش بعد قرابة 33 عاما من الآن، مجموعة بشرية تمّ محو ذاكرتها وتمّ إعطاب أحاسيسها ومشاعرها. ثلة من الشباب من بينهم جوناس (الممثل برينتون ثاويتس) يعيشون في تلك البقعة الافتراضية من ذلك العالم الجديد، الناس يتنقلون بالدراجات الهوائية كوسيلة نقل أساسية، وها هم بصدد الذهاب إلى حفل تخرجهم وحصولهم على الوظائف. ووسط الحشود تعلن الزعيمة المسؤولة (الممثلة ميريل ستريب) وظيفة كل متخرج باستثناء جوناس الذي يجري تجاهله بتعمّد حتى اللحظة الأخيرة، ليتمّ إثرها الإعلان على أن جوناس هو الذي تمّ اختياره من بين جميع المتخرجين، وأنه الأفضل لكي يكون هو مستلم الذاكرة من مصدرها الرئيسي، وتخبره الزعيمة أنه سيواجه مشاكل وصعوبات وآلاما لا يمكن تخيّلها، وأن عليه أولا وأخيرا الكتمان وعدم الإفصاح عن نوع دراسته والخبرات التي سيكتسبها أثناء الإعداد والتدريب. ويبدأ جوناس جلسات تلقي الذاكرة، وإذا به ينتقل مباشرة إلى أناس من كل الألوان والأجناس وهم يعملون ويرقصون ويضحكون، ويؤدّون طقوسهم الدينية من بوذيين ومسلمين ومسيحيين وغيرهم، ويرتدون أشكالا وأنواعا مختلفة من الأزياء، ويكتشف من ذلك أن هنالك ألوانا تمّ حرمانهم منها على أساس أن الهدف هو المساواة. ويكتشف أيضا أن هنالك أصواتا وموسيقى، وأن الناس بينهم علاقات تسمى "حب"، وعندما يسمع والداه تلك الكلمات يوبخانه ويطلبان منه استخدام المفردات السائدة والمعتمدة رسميا، وبعد كل هذا الشقاء اللذيذ يقرر جوناس أن على كل المحيطين به أن تكون عندهم ذاكرة مثله، فيرون جمال العالم الآخر وأصواته التي لا يتخيلونها. الخروج عن النسق، أي عن وعي المجموعة معناه التمرّد وعقوبته قتل قانوني، وقد سبق أن قتلت فتاة اسمها روزماري، لأنها أتقنت جيدا ماذا تعني الذاكرة وحاولت نقل ما عاشته إلى الآخرين؛ حاولت أن تروي لهم معنى الموسيقى والجمال الكامن في أماكن أخرى لا يرونها وهم محرومون منها كليا. ويجرب جوناس أن ينقل خبرته إلى طفل رضيع يجلبه والده إلى البيت، وبالفعل سيرى ذلك الطفل مشاهد كثيرة غريبة، حيوانات ملونة تتقافز وتلعب، ويقرر جوناس الخروج من هذا العالم بأيّ شكل مصطحبا معه الرضيع وكأنه تمرّد على ثقافة القطيع. يخرج جوناس ومعه ذلك الرضيع قبل أن يحقن هذا الأخير بحقنة قاتلة ويرمى، وهو العقاب السائد بسبب أنه لم ينم عقليا بما فيه الكفاية. تعبّئ الزعيمة كل إمكاناتها وتوجه نداءاتها لملاحقة جوناس قبل انتقاله إلى العالم الآخر، لكنها تفشل في الإمساك به فيكون هو والرضيع في بلاد أخرى فيها أشجار وثلج وبحر وأصوات وشمس وحياة.الفيلم مشبع بحوارات عميقة عن الكون والحياة والإنسان، وخاصة تلك التي يتحدث بها المعطي (الممثل جيف بريجز) الذي يلقن جوناس تلك الحكمة المحرمة التي تعطي قيمة وشكلا للأشياء، ومنها مثلا كلمة الحب التي تثير استغراب صديقته فيونا (الممثلة أوديا راش)، وكذلك معنى الكراهية التي تصل إلى الاعتداء الجسدي، وهي من الغرائب في تلك البقعة النائية. ويشهد جوناس وهو يكتسب خزين الذكريات من المعطي أن الناس من الممكن أن يتقاتلوا، إذ ينتقل إلى أجواء معارك أرضية حقيقية، وأن هنالك كائنا حقيقيا ضخما اسمه الفيل، وليس مجرد دمية يلعب بها الصغار، وأنه يقتل بسادية بشعة للاستحواذ على العاج الذي يصنعه، وخبرات أخرى ثرية، والحصيلة أن الفيلم يستحق التأمل في موضوعه وبنائه ومعالجته.