يطرح هامش الحرية الكبير الذي يميِّز قطاع الإعلام في فرنسا كثيرا من الإشكالات لرجال هذه المهنة خاصة عندما يتعلّق الأمر بمقدسات الأقليات - باعتبار المشكل غير مطروح لدى الأغلبية ما دامت الدولة لائكيه - و كان المنعرج الخطير الذي وصل إليه فريق الأسبوعية الساخرة " شاغلي أبدو" يوم 7 جانفي المحطة الفارقة في الصراع الكبير الذي بدأ يتبلور في فرنسا منذ عديد سنوات خاصة مع تنامي الأصولية و الراديكالية الدينية تبعا للجالية المسلمة و اليهودية الكبيرة الموجودة في هذا البلد و ظهور الجيل الثالث من أبناء المهاجرين . الجيل الذي وُلد في فرنسا و الذي تحكمه ضوابط بيئية و سوسيو اجتماعية غالبا ما تجعله مواطنا من الدرجة الثانية ما يُشعره بكونه من مهمشي الضواحي رغم أنّ الحكومات التي توالت على قصر ماتينيون لم تغفل الاهتمام بالموضوع من خلال إرفاق كثير من الوزارات بكِتابات دولة متخصصة في إدماج المهاجرين و التأكيد على اللائكية و مبادئ الجمهورية في المدارس وكذلك تفعل العديد من وسائل الإعلام اليسارية التي تنتمي إلى التيار الاشتراكي من أجل ما تصفه بالاندماج السلس من خلال مرافقة شباب الضواحي لإبعادهم عن الآفات الاجتماعية التي صار السقوط في الراديكالية أهم ما يميِّزها في السنوات الاخيرة باعتبار شباب الجيل الثالث و رغم مولده في فرنسا و منهم من لم تطآ قدماه الموطن الأصلي لوالديه فإنّه تتجاذبه ثقافتان مختلفتان. و عن دور الصحافة الفرنسية التي تحاول مرافقة الشباب المهاجر أو الذي ولد في فرنسا يكفي أن نعلم أن الفريق الصحفي الذي تم اغتياله في مجلة "شاغلي أبدو" كان في ذلك الأربعاء الذي شهد المجزرة يعِد عددا خاصا حول محاربة العنصرية و ابعاد الشباب عن الراديكالية للرد على حركة "بيغيدا العنصرية الألمانية ( مواطنون أوربيون ضد أسلمة الغرب) التي تظاهرت يوم الاثنين 05 جانفي مطالبة بطرد المسلمين غير الألمانيين . و في زخم الضياع غالبا ما يجد الشباب ملجأه في الخطاب الديني و تجتهد أطراف راديكالية في الديانة الإسلامية و أيضا اليهودية من أجل جلب هذه الفئة و حتى الفرنسيين الذين يتحولون إلى اعتناق الإسلام ( و لو أنّ الظاهرة ليست حكرا على فرنسا بل تجد لها صورا تتكرر في بريطانيا و هولندا و بلجيكا ..) يتلهف التيار الراديكالي من أجل اسقاطهم في الراديكالية و شحنهم بالكراهية بكل ما هو غير اسلام و يشككهم في قيم و مبادئ الجمهورية الفرنسية و يصور لهم الجهاد و محاربة الطاغوت طريقا صحيحا للتخلص من الذنوب القديمة و دخول الجنة . و قد وجد السقوط في الراديكالية متنفسا في السجون فمثلا العناصر الثلاثة التي ارتكبت مجزرة "شاغلي" و " إيبار كاشير " في " بوغت دو فانسان " في قلب الضاحية الباريسية كلهم دخلوا السجن بتهم السرقة و الاعتداء على ممتلكات الغير لكن خرجوا من هذه السجون بعد أداء العقوبة راديكاليين جهاديين يحملون كل الحقد لفرنسا التي احتضنتهم و تمادت في التكفل بهم اجتماعيا من أجل ادماجهم و عبروا عن رغبتهم الجامحة في " الجهاد" فوقعّوا المجازر المذكورة ،مجازة تحمل الحقد و الإصرار على الغاء الآخر لأنه يختلف معه في المعتقد أو الفكر مع أنّه صاحب الأرض في أغلب الأحيان . و بعيون الشرق التي غالبا ما ينتمي إليها الفرنسيون من أصول عربية فإن ما أقدمت عليه المجلة تجريحا للمشاعر فالدين مقدس لا يعلى عليه في أدبيات هؤلاء و لو أنّ نسبة كبيرة منهم مؤمنة و ليست مطبقة للدين ، و لكن تحملها عاطفة جيّشة عندما يتعلق الأمر بمقدساتها و التي لا ترى فيها عيون الغرب حرجا عندما تشرِّحها ( و لا تعتقد أنها تجرِّحها) ما دام أصحاب هذا الرأي قد تربوا و كبروا على مبادىء المواطنة قبل الانتماء الروحي أو العقائدي. و قد توقفت كاتبة فرنسية من أصل جزائري عند نقطة هامة عندما أجرت استطلاعا لكتابها و كانت كلما سألت مواطنا فرنسيا من أصول اسلامية يعرف نفسه في الأول بأنه مسلم في حين يقول الفرنسي في أول تعريف بنفسه : أنا مواطن فرنسي . هذا ما قد يجعل الطريق طويلا أمام أبناء المهاجرين المسلمين في التأقلم مع مبادئ الجمهورية الفرنسية باعتبار الدين ليس هوية و لا تعريفا بل قناعة شخصية ليس الفرد ملزما بالتعبير عنها أو اظهرها إذا لم يسأل عنها .