بادر الراحل خوليو جروندونا الجميع بتوقعات أصبحت اليوم حقيقة واضحة، فقد قاد الرجل الكرة الأرجنتينية بطريقة جعلت من غيابه بمثابة معضلة أكبر بكثير من لو كان رحيله من نصيب أي قيادي آخر له أسلوبه المختلف. وتطرق جروندونا إلى الحديث عن لحظة غيابه كما لو كان يراها من موقعه أثناء متابعته مونديال البرازيل 2014، حيث قال: "لم أفعل شيئا جيدا؟ .. سيفتقدونني عندما أختفي". وبالفعل، سيفتقد الأرجنتينيون جروندونا كثيرا في بلادهم لأن عالم كرة القدم هناك ما هو إلا حالة فريدة من الفوضى لم يكن لغيره أن يرتب شؤونها حتى ولو بطريقة مثيرة للجدل أو استبدادية أو حتى غير منطقية في كثير من الأحيان. وبالإضافة إلى افتقاد الكرة الأرجنتينية إليه، لن يكون حال نظيرتها في أمريكا الجنوبية أفضل حالا، حيث أن جروندونا كان حائط الصد والمدافع الأول عن مصالحها وكيانها داخل الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" الذي استوعب ماهيته وحواشيه كما لم يفعل الكثيرون غيره في عالمنا المعاصر. يذكر أن جروندونا لم يكن يجيد تحدث الإنجليزية بطلاقة، ورغم ذلك تمكن من التواصل مع الجميع داخل الاتحاد المهيمن على شؤون اللعبة الشعبية الأولى في العالم. وعن ذلك الأمر تحدث جروندونا قائلا: "أنا أتحدث الأسبانية فقط .. هذا حقيقي ولكنني أتمتع بميزة خاصة وهى إجادة لغة كرة القدم بشكل كبير .. إنها لغة يعرف الجميع كيف يتحدثونها". وكان للتحالف الذي عقده القيادي الراحل مع البرازيلي جواو هافيلانج رئيس الفيفا السابق ثم مع خليفته السويسري جوزيف بلاتر أبلغ الأثر في اتساع نفوذ الأرجنتين داخل الاتحاد بشكل عادل أو تفوق في أوقات معينة على الانجازات الكروية لمنتخب البلاد ذاته. ودأب جروندونا على التفاخر بكونه أحد الأسباب الرئيسية لتفوق بلاتر على منافسه السويدي لينارت جوهانسون في انتخابات الرئاسة التي شهدها الفيفا عام 1998، وهو ما بات يؤكد عليه أعضاء الفيفا أنفسهم عبر السنوات الماضية حتى عند تخلي جروندونا عن ذكره أو التباهي به. هذا عليك أن تقيله فورا من أجلي " جملة تنامت إلى مسامع الصحفيين أثناء اجتماع الجمعية العمومية للفيفا في سول بكوريا الجنوبية عام 2002، ادعوا أن قائلها كان جروندونا لصديقه بلاتر بينما كان يمسكه من ذراعه بحميمية. وأشارت وسائل الاعلام حينها إلى أن جروندونا كان يقصد بعبارته تلك السويسري ميشيل زين روفينين السكرتير العام للاتحاد آنذاك الذي كان يقود حملة ضد كل من بلاتر ونائبه الأرجنتيني بداعي الفساد الذي يشوب إدارتهما للمؤسسة الكروية الدولية. ولم يقم جروندونا بتعيين خليفة له بشكل واضح أو حتى بشكل رمزي يمكن أن يفتح باب التكهنات حول هويته، ولذلك لم يكن لأي شخص في البلد الحائز على لقب بطولة العالم لمرتين من المنتظر أن يعتلي منصب القيادي الراحل أن يتمكن من سلوك نفس طريقه في أروقة الفيفا. وتشابه جروندونا كثيرا في أسلوب عمله ومقاصده مع زميله في اللجنة التنفيذية للفيفا المكونة من 24 عضوا الأسباني أنخيل ماريا بيار، فقد توافق الرجلان كثيرا في أسلوبهما ودهاؤهما رغم أن بيار كونه أوروبيا تتعارض مصالحه في بعض الأحيان مع مصالح اتحاد الكرة الأمريكي الجنوبي "كونيمبول". وتبرز أسماء بعض أعضاء تلك اللجنة كمرشحين لخلافة جروندونا في منصبه داخل الفيفا مثل ماركو بولو ديل نيرو الرئيس الجديد للاتحاد البرازيلي اعتبارا من 2015 رغم أنه يفتقد السبيل للوصول إلى قوة التأثير الذي تمتع بها جروندونا داخل الاتحاد. ويعد اسم الأوروجواياني إوخينيو فيجويرادو عضو اللجنة التنفيذية ورئيس "كونيمبول" أيضا من ضمن المرشحين لخلافة الأرجنتيني الراحل، رغم بلوغه عامه الثاني والثمانين وهي السن التي توفى عنها جروندونا أمس الأربعاء. ولجأ جروندونا إلى الابتعاد عن المشاكل التي يمكن أن تؤثر على مسيرته في الآونة الأخيرة، والتي كان أبرزها وأشدها حدة محاولة اتحاد أوروجواي لكرة القدم تخفيف العقوبة القاسية الموقعة من قبل الفيفا على لويس سواريز مهاجم منتخب أوروجواي وهو ما تعامل معه جروندونا على كونه مطلبا ليس محققا بالضرورة. وعلى خلفية تلك الواقعة، أوضح جروندونا أثناء حديثه مع أحد المسؤولين الأرجنتينين البارزين أثناء مباراة منتخب بلاده أمام نيجيريا في بورتو أليجري قائلا: "إذا اجتمع الفيفا في ريو سأذهب إلى بيلو هوريزونتي". وما كان لجروندونا أن يتخلف عن حضور اجتماع الفيفا في ريو في أوقات أخرى ليضبط إيقاع الحديث كالمعتاد إلا أنه لم يفعل هذه المرة وأثر الابتعاد عن الموضوع الذي ألقى بظلاله الثقيلة على المتابعين والمشجعين والمسؤولين في أوروغواي خلال ليلة طويلة انتهت بصدور قرار عقابي صادم. وبدا أن جروندونا لم يكن لديه الرغبة في أن يعكر صفو سريرته بعد الفرحة التي غمرته بفوز فريقه في تلك الليلة وانغماسه في حلم تحقيق اللقب العالمي الثالث في تاريخه الذي لم يكن يفصله عن تحقيقه سوى خطوة واحدة.
