عندما تفرجت على فيلم عن حياة الثري اليوناني، أرسطو أوناسيس، ذات صائفة في مدينة تونس، قلت بيني وبين نفسي: هذا هو قارون القرن العشرين. ثم قرأت بعد سنوات في الصحف أن أمواله الطائلة، بل، والخرافية إن جاز التعبير، وبواخره التي تمخر محيطات الدنيا لم تحل بينه وبين أن ينال المرض من عينيه الجاحظتين على الدوام. وفي أواخر أيامه، كان الأطباء يضعون بعض الشريط اللاصق فوق عينيه حتى تظلان مفتوحتين لأنه ما كان يقوى على فتحهما. ذلكم هو أوناسيس، صاحب أكبر أسطول تجاري في العالم منذ أواخر الحرب العالمية الثانية. بنى ثروته فلسا فلسا، وتمكن من تسيير ممتلكاته بحس التاجر الذي يحسب لكل قرش حسابه. ولم يبدد ثروته تلك في القمار مثلما فعل غيره من بعض الأثرياء الذين امتلأت حساباتهم البنكية بأموال لا يعرفون عدها ولا مقدارها. غير أن أمواله الطائلة هو لم تجعل منه إنسانا مرهف الشعور، ربما لأنه لم يفكر يوما في أن يتذوق الفنون الكبرى التي يعمد غيره من الأثرياء إلى التحصن وراءها من أجل أن تتحسن صورتهم في كل ما يحيط بهم. أوناسيس هذا على العكس من ذلك، مد إلى شيء آخر، وهو أنه آثر أن يكون مزواجا. وفي هذا الجانب ما كان ثري آخر لينافسه. زيجاته كانت من النسوة اللواتي لهن حظ كبير من الشهرة، من أمثال جاكلين كنيدي، الأمريكية الجنسية الفرنسية الأصل، والمطربة الأوبرالية العظيمة، ماريا كالاس، بنت بلده. هل اشترى أمثال تلك النسوة؟ ولم قد لا يكون فعل ذلك؟ في الستينات من القرن المنصرم، عمل المستحيل لكي يتزوج بنت وطنه، المطربة ماريا كالاس، وكان له ما أراد. وكانت هذه المطربة أكبر من تغنى بالنوع الأوبرالي في القرن العشرين إلى جانب أنريكو كاروز الإيطالي وبافاروتي وبلاسيدو دومينجو. عندما ينطلق صوتها بأوبرا "كارمن" على سبيل المثال، للموسيقار جورج بيزي، تظل الأسماع مشدودة إليها مثلما حدث عام 1962 على مسارح لندن. وكذلك الشأن بالنسبة لجميع ما أدته من إنجازات أوبرالية لكبار الملحنين في القرن التاسع والقرن العشرين. لكنها لم تكن عظيمة مع زوجها أوناسيس، حسبما أورده أولئك الذين يتعقبون حياة الأثرياء. قال البعض من الذين يختلفون إلى السهرات المخملية في عواصم أوروبا، إن أوناسيس اقتنى هذه الفنانة العظيمة كما اقتنى سفينة من سفنه العديدة؟ وبالفعل، كان أوناسيس يختار السفن التي يقتنيها بأمواله الطائلة ويسهر على تسييرها في محيطات الدنيا. ونقاد الفن الموسيقي يقولون إنه حطم ماريا كالاس، تحطيما كليا بحيث لم تقم لها قائمة بعد ذلك. وبالفعل، فلقد تضعضع صوتها الملائكي في زحمة الحياة مع أوناسيس، وما عادت له تلك النبرة الملائكية التي ما زال عشّاق الموسيقى يتمتعون بها كلما أنصتوا إليها وهي تؤدي القطع الأوبرالية الشهيرة. ومتتبعو أخبار النجوم في الصحافة العالمية يقولون نفس الشيء عن العلاقة التي جمعته بأرملة الرئيس جون كنيدي. فبعد أن تزوجها توترت الأمور بينهما، وأدركت هذه المرأة التي كانت في يوم من الأيام زوجة لأكبر رئيس دولة في العالم أنها لم تكن سوى تحفة فنية أراد أن يلهو بها أوناسيس ويعلقها مثل لوحة لأحد عظماء الفنانين التشكيليين. لا يؤثر عن أوناسيس هذا أنه كان من المحسنين كغيره من بعض أرباب الأموال في العالم. ويبدو أن همومه المالية هي التي ظلت شغله الشاغل في هذه الحياة حتى إن بنته تزوجت وابتعدت عنه لتعيش وتموت في أمريكا اللاتينية، بينما لقي ابنه الوحيد مصرعه في حادثة طائرة كان يقودها بنفسه. ولكن، هذه هي سنّة الله في خلقه. البعض يولدون بطواقم من ذهب كما يقول المثل الإنجليزي، والبعض الآخر لا يكادون يجدون لقمة العيش أو هم يكدون الكد كله بحثا عنها، وقليل منهم أولئك الذين يجمعون بين العقل والمال. لكن غلطة أوناسيس التي يعاقبه التاريخ عليها هي أنه قضى على المطربة الأوبرالية ماريا كالاس. وهكذا غاب أوناسيس بين طيات التاريخ، بينما بقيت هذه المطربة الخارقة في ذاكرة كل من ينصت إلى الغناء الأوبرالي.