الآثار التاريخية في نظر الشريعة الإسلامية هل هدم الآثار التاريخية خدمة للشريعة أم محاربة للقرآن ومقاصده؟ الشيخ التواتي الأغواطي إن ما يحدث في العالم الإسلامي اليوم يندى له الجبين فحيث ما اتجهت تجد: ظلما وجهلا وإيثارا للدنيا على الآخرة وتأويلا للنصوص الصحيحة الصريحة وتحريفها إرضاء للحكام طمعا فيما لديهم بل وصل الأمر ببعضهم إلى تزيين المناكر وإثارة الفتن وغير ذلك من بلاء ومحن.. أيها القارئ الكريم لا تستغرب هذا الأمر فقد تنبأ رسول الله هذا الحال حين أشار إلى فتن كقطاع المظلم تترك الحليم حيران فقد بيّن رسول الله_أمارة ظهورها بألفاظ لا تقبل التأويل والتحريف وهاك الحديث بنصه مسندا: عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله_قال: اللهم بارك لنا في شامنا اللهم بارك لنا في يمننا قالوا: وفي نجدنا قال: اللهم بارك لنا في شامنا اللهم بارك لنا في يمننا قالوا: وفي نجدنا قال: هنالك الزلازل والفتن وبها أو قال: منها يخرج قرن الشيطانأخرجه أحمد والبخاري والترمذي عن ابن عمر وقال: حسن صحيح غريب. وأخرجه ابن حبان في صحيحه. قال الشيخ الألباني:صحيح تخريج فضائل الشام. حين قيل لرسول الله: ونجدنا قال: منها يخرج قرن الشيطان وفي رواية أخرى يطلع فالسائل حين قال: ونجدنا لم يقصد نجد العراق كما ادعاه بعضهم لأن العراق لم تفتح بعد في عهد رسول الله_ والسائل قصد نجد الحجاز ومنه ظهرت الفتن عبر التاريخ. النبي يتحدث وهذا الحديث شاهد على ذلك ويعد من معجزات النبي محمدالتي أخبر فيها عن بعض المغيبات ومن ذلك قوله_ في هذا الحديث: هاهنا الفتنة-ثلاثا- من حيث يطلع قرن الشيطان وقد تحقق ما أخبر به رسول الله_ فإن الفتن ظهرت من قبل المشرق كثيرا والفتنة الكبرى التي كانت مفتاح فساد ذات البين هي قتل عثمان وهي سبب وقعة الجمل وحروب صفين كانت في ناحية المشرق ثم ظهور الخوارج في أرض نجد وفيما بعد العراق وما وراءها من المشرق وأكثر البدع إنما ظهرت من المشرق فكانت سببا إلى افتراق كلمة المسلمين ومذهبهم وفساد نيات كثير منهم إلى اليوم وإلى قيام الساعة وآخر الفتن تظهر خروج الدجال من قبل المشرق. وفي الحديث السابق إشارة إلى فئة أخرى ظهرت في زمننا سعى أصحابها إلى هدم كلّ آثار ذكرت في القرآن ونبّه ودعا إلى الرجوع إليه كبرهان قاطع على أن القوة لله وحده وأنه خاذل المشركين ومزيل وجودهم حتى أصبحت تلك الآثار الدالة عليهم آيات للسائلين وموعظة للمتقين. لقد يُؤَوّل ما أدعو إليه من محافظة على الآثار التاريخية أنني من دعاة عبادة الأصنام وأن هذه آثار جاهلية يجب إزالتها فأقول لهؤلاء: إن هذه الآثار ذكرت في القرآن وكان رسول الله يعلمها ولم يؤمر بإزالتها ولا دعا إلى هدمها وإنما تركها وجاء من بعده خلفاء راشدون يحكمون بالعدل همهم أن يقيموا دولة العدل والحقّ وإقامة الشريعة التي أرادها الله منهجا لعباده فما دعوا يوما إلى إزالة تلك الآثار وإنما أبقوها على حالها صحيح إن هذه الآثار الهدف من إبقائها لتكون داعية من رآها إلى الإيمان أصبحت في زمننا لجلب الدينار والدولار فأخرجها بعض اللاهثين وراء الكسب المادي عن وظيفة بائقها كما أنّ دعاة إزالتها يبيعونها لجني كسب مادي فما الفرق بين هؤلاء وأولئك.. دعوة الى التدبر والآن تعيّن أن أسوق بعض الآيات كدليل على أن هذه الآثار هي أدلة قائمة تدعو إلى الإيمان بالله الواحد الأحد وبيان مصير الضالين المضلين المكذبين لأن الآيات القرآنية لها مقاصد وأهداف في خطابها للناس. -قال الله تعالى مشيرا إلى مصير المكذبين: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ) آل عمران: 137 تشير بالبيان والتوضيح أن قرونا مضت تركوا آثارا فما بكت عليه السماء ولا الأرض فسيروا في الأرض ودونكم ديارهم وابحثوا عن معنى آثارهم. -وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) يوسف: 109 وإن سيركم هذا المدعوون إليه لتعلموا عاقبة المكذبين المجرمين حتى تزدادوا إيمانا ويقينا بعظمة وقدرة مبيد الأمم الضالة. -وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِّأُوْلِي النُّهَى) طه: 128 والمعنى هنا: ألم نبين لهم طرق الاعتبار بكثرة إهلاكنا القرون قبلهم بتكذيب الرسل فيعتبروا ويؤمنوا وكانت قريش تتجر إلى الشام فترى مساكن قوم لوط وثمود وعلامات الإهلاك. لاحظ أيها القارئ الكريم قوله تعالى: (يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) يتقلبون في ديارهم وأن ليس لهم باقية ولا عين ولا أثر وأن حال هؤلاء يمشون في مساكن الذين أهلكناهم عند خروجهم للتجارة وطلب المعيشة فيرون بلاد الأمم الماضي والقرون الخالية خاوية خربة من أصحاب الحجر وثمود وقرى قوم لوط فإن ذلك مما يوجب اعتبارهم لئلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك. -وقال تعالى: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْم يَعْلَمُونَ) النمل: 52 أي: إن بيوتهم خاوية عن الأهل والخير والنعمة بسبب ظلمهم لم يبق فيها منهم ديار ولم يعد فيها أنيس وكأن لم يسمر بها سامري فإذا هي منهم بلاقع. -وقال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) النمل: 69 -وقال تعالى: ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) القصص: 58 أي: تلك منازلهم التي كانوا يسكنونها لم يسكنها أحد إلا المسافرون ومارو الطريق ينزلون ببعضها يوما أو ساعة ثم يرحلون. والمعنى: لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا ولم نجعل لهم أحدا بعد هلاكهم في منازلهم من يسكنها فبقيت خرابا غير مسكونة لتكون عبرة للمعتبرين. وإن سبب قفرها كفر النعم بالبطر والأشر وغمط الحق واحتقار الناس وظلم الضعفاء ومحاباة الأقوياء والإسراف في الفسق والفجور والغرور بالغنى والثروة فهذا كله من الكفر بنعم الله واستعمالها في غير ما يرضيه من نفع الناس والعدل العام والأيام الناطقة بتلك الذنوب مجتمعة ومتفرقة كثيرة. -وقال تعالى: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) يونس:92 والآية ذكر المفسرون في تفسيرها كلاما كثيرا يدور حول معنى واحد لقد نجا الله تعالى فرعون ببدنه لا بروحه ليكون آية لبني إسرائيل حين استعظموا موته وصعب عليه تصور موته فجعله على مكان مرتفع من الأرض ليوقنوا بموته ولم ينته الأمر هنا بل إن القرآن صالح لكلّ زمن ومكان فقد حُفظ جسمُه في ديار المصرية في دار الآثار ليطلع عليه من أراد يقينا فيكون سببا في هدايته وقد حدث هذا في زمننا فإن صاحب كتاب: التوراة والإنجيل والقرآن للطبيب الجراح (موريس بيكاي) قال في كتابه المشار إليه: أني أول من اطلع على هذه الآية وإن فرعون قد مات غرقا وذلك أنه أجرى عليه تحاليل طبية فعلم أن هذا الطاغية مات غرقا فكان بحق آية كما عليه الآية. -وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فاطر: 44 -وقال تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْء بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) الأحقاف:25 فالآية تشير لما حدث لأصحاب الأحقاف فلما جاء أمر الله أنجا هودا والذين معه من المؤمنين برحمة عظيمة من لدنه لا يقدر عليها غيره وقطع دابر المكذبين الضالين فقد استأصلهم بريح عاتية وهنا يأتي التأكيد نتيجة حالهم فقال تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْء بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ). آثار الظالمين ومجمل القول: إن الدعوة إلى السير في الأرض للاطلاع والتدبر والاعتبار ولمعرفة قدرة القادر في أخذ الظالمين المكذبين وهذه الآثار وقائع ناطقة مسجلة فهي شاخصة للعيان فهي تاريخ يروي مصير من عصا وعاند هي أحاديث متداولة تروي قصة قوم كانوا هنا فبادوا وبقيت آثارهم ولم يعف عنها الزمن كمثل لتحقيق الهدف وبيان مصير قوم معاندين وأن الله أخذ أهلها أخذ عزيز مقتدر. والمعلوم من الدين أن القرآن نزل في مكة حيث قريش وكانوا يسيرون في الأرض ويتنقلون في أرجائها للتجارة والعيش وما يتعلق بالعيش من صيد ورعي فدعاهم الله في القرآن أن يعتبروا حين يمرون بتلك الآثار ليهتدوا وعلى هذا فإن كلّ اعتداء على هذه الآثار هو اعتداء على القرآن ودعوة ضمنية للأجيال اللاحقة للتكذيب بالقرآن.. وهذه الآيات التي أثبتها دالة على آثار المشركين الذين خذلهم الله تعالى فأصبحوا آية للمعتبرين وأمر الله من آمن بالمرور عليها للاعتبار ليزيد الموقنين إيقانا بعظمة الله تعالى فتلك ديارهم خالية خاوية ويخاطب الناس إنهم ليمرون عليهم صباحا مساء بالليل والنهار قال تعالى: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) الصافات: 137-138 وإنهم يشاهدون آثارهم الباقية تحكي ما آل إليه أمرهم وكيف حاق بهم العذاب فأصبحوا خبرا بعد عين وحين دعاهم للاعتبار حتى لا يصيبهم مثل ما أصابهم فإن منشأ ذلك مخالفتهم رسولهم ومخالفة الرسول قدر مشترك بينهم وقوله تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي: إن الله تعالى ينكر على كفار مكة-ومن ورائهم كل من عطلّ عقله-ويوبخهم أن يغرب عنهم العقل وأن يغيب عنهم التدبر والتفكير وإنهم ليمرون على ديار قوم الظالمين ليلا ونهارا وهم في طريقهم إلى الشام للتجارة أفلا يعتبرون بتدمير تلك الديار على أهلها جزاء كفرهم وتكذيبهم رسولهم وانغماسهم في المعاصي الخبيثة التي كانوا يفعلون. وعليه فإن هذه الآثار علامات ناطقة أمر الله أن ننظر إليها حين نمر بها بالتمعن فيما آل إليه أصحابها حين عتوا وتجبروا ونكبوا عن الصراط المستقيم وإن هدمها وإزالتها إزالة للآيات التي أشارت إليها والآيات التي أثبتناها دليل على تحريم هدم تلك الآثار دعا القرآن إلى السير إليها للاعتبار (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْم يَعْلَمُونَ) النمل: 52 وأعيد وأكرر أنها فتنة طلعت من المشرق كما أشار إليها النبي_تهدم كلّ أثر أمر الله تعالى الأولين والآخرين للاعتبار لأنها تبيّن مصير الضالين وما آلوا إليه بعد جحودهم وشركهم وأيّ فتنة أعظم من هذه الفتنة؟! ونختم بما قال ربنا في محكم التنزيل: (إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ) الأعراف: 155 وللبحث صلة.