الشيخ: راغب السرجاني تعددت وقائع استهزاء المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا موقف تَفَلَ فيه أحد المجرمين وهو عقبة بن أبي معيط لعنه الله في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً به وبالإسلام. عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبا مُعَيط -وهو عقبة بن أبي معيط- كان يَجلِسُ مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكةَ لا يُؤذيه وكان رجلاً حليمًا وكان بقيَّةُ قريش إذا جَلَسوا آذَوْه وكان لأبي مُعيط خليلٌ غائبٌ عنه بالشام (هو أبي بن خلف الجمحي) فقالت قريشٌ: صَبَأَ أبو مُعَيط. وقدِم خليلُه من الشام ليلاً فقال لامرأته: ما فَعَل محمدٌ مما كان عليه؟ فقالت: أشدُّ مما كان أمرًا. فقال: ما فَعَل خليلي أبو مُعَيط؟ فقالت: صبَأ. فبات بليلةِ سَوء فلما أصبَح أتاه أبو مُعَيط فحَيَّاه فلم يرُدَّ عليه التحيةَ فقال: ما لكَ لا تَرُدُّ عليَّ تحيتي؟ فقال: كيف أَرُدُّ عليك تحيَّتَك وقد صَبَوتَ؟ قال: أَوَ قَدْ فَعَلَتْها قريش؟ قال: نعم. قال: فما يُبرئُ صُدورَهم إِنْ أنا فعلتُ؟ قال: تأتيه في مَجلِسِه فتبزُقُ في وجهه وتشتُمُه بأخبثِ ما تعلمُ من الشَّتْم. ففعل فلم يَزد النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أن مَسَح وجهه من البُزاق ثم التفت إليه فقال: إِنْ وَجَدْتُكَ خَارِجًا مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ أَضْرِبُ عُنُقَكَ صَبْرًا فلمَّا كان يومُ بدر وخَرَج أصحابُه أبى أن يخرجَ فقال له أصحابه: اخرجْ معنا. قال: قد وَعَدَني هذا الرجل إن وَجَدَني خارجًا من جبال مكةَ أن يضربَ عُنُقي صبرًا. فقالوا: لك جَمَلٌ أحمرُ لا يُدْرَك فلو كانتِ الهزيمةُ طِرْتَ عليه فخرج معهم فلما هَزَم اللهُ المشركين وَحَلَ به جَمَلُه في جَدَد [ من الأرض فأخذه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أسيرًا في سبعينَ مِن قُرَيْش وقدِم إليه أبو مُعَيط فقال: أتقتلُني مِن بين هؤلاء؟ قال: نَعَمْ بِمَا بَزَقْتَ فِي وَجْهِي . فأنزل الله في أبي مُعَيْط: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} إلى قوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذولاً} [الفرقان: 27 - 29] وهناك رواية أخرى صحيحة كذلك لأبي نعيم الأصبهاني تشرح الموقف نفسه أحببتُ أن أوردها -أيضًا- لوجود بعض التفاصيل المفيدة الأخرى. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كَانَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْط لاَ يَقْدَمُ مِنْ سَفَر إِلاَّ صَنَعَ طَعَامًا فَدَعَا عَلَيْهِ النَّاسَ جِيرَانَهُ وَأَهْلَ مَكَّةَ كُلَّهُمْ وَكَانَ يُكْثِرُ مُجَالَسَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُعْجِبُهُ حَدِيثُهُ وَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الشَّقَاءُ فَقَدِمَ ذَاتَ يَوْم مِنْ سَفَرِهِ فَصَنَعَ طَعَامًا ثُمَّ دَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى طَعَامِهِ فَقَالَ: مَا أَنَا بِالَّذِي آكُلُ طَعَامَكَ حَتَّى تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ . فَقَالَ: اطْعَمْ يَا ابْنَ أَخِي. قَالَ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَفْعَلُ حَتَّى تَقُولَ . فَشَهِدَ بِذَلِكَ فَطَعِمَ مِنْ طَعَامِهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ أُبَيَّ بْنَ خَلَف فَأَتَاهُ فَقَالَ: صَبَوْتَ يَا عُقْبَةُ وَكَانَ خَلِيلَهُ. فَقَالَ: لاَ وَاللهِ مَا صَبَوْتُ وَلَكِنْ دَخَلَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَأَبَى أَنْ يَطْعَمَ مِنْ طَعَامِي إِلاَّ أَنْ أَشْهَدَ لَهُ فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِي قَبْلَ أَنْ يَطْعَمَ فَشَهِدْتُ لَهُ فَطَعِمَ. فَقَالَ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَرْضَى عَنْكَ أَبَدًا حَتَّى تَأْتِيَهُ فَتَبْزُقَ فِي وَجْهِهِ وَتَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ. قَالَ: فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ وَأَخَذَ رَحِمَ دَابَّة فَأَلْقَاهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لاَ أَلْقَاكَ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ إِلاَّ عَلَوْتُ رَأْسَكَ بِالسَّيْفِ . فَأُسِرَ عُقْبَةُ يَوْمَ بَدْر فَقُتِلَ صَبْرًا وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الأُسَارَى غَيْرُهُ قَتْلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتُ بْنُ الأَقْلَحِ ونلحظ في النَّصَّين السابقين أمورًا عدَّة منها أن زمن حدوث هذه القصة مبكِّرٌ كما أثبتناه هنا وليس كما وضعه البعض في أخريات العهد المكي وبعد وفاة أبي طالب لأن ابن عباس رضي الله عنهما يذكر أن عقبة بن أبي معيط كان لا يُؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وهذا في الواقع كان في السنوات الأولى فقط لأنه بعد ذلك كان شديد الإيذاء له ومنها أن إحاطة أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعه له لم تكن تمنع كل أنواع الإيذاء من الوصول إليه خاصةً أن الذين يتعدَّون على رسول الله صلى الله عليه وسلم كُثُر ومن قبائل مختلفة ولو حدث صدام أو قطيعة مع كل حادثة تعدّ عليه ما هدأت الحرب داخل مكة أبدًا. ومنها حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أمر الدعوة فلا يترك فرصة إلا وكلَّم الناس فيها ومنها أن نظرة الوثنيين للدين نظرة سطحية للغاية حتى لم يكن عند عقبة مانع من النطق بشهادة التوحيد مجاملةً لزائره حتى يقبل بالأكل عنده ولم يكن عنده مانع من الرجوع فيها عندما غضب صاحبه أُبَيُّ بن خلف منه ومنها أن صحبة السوء كانت تُميل رأس كثير من أهل مكة عن الإسلام فرجل كعقبة بن أبي معيط في حلمه وكرمه -كما وصف ابن عباس رضي الله عنهما وخاصةً في رواية أبي نعيم- كان من الممكن أن يكون من رجال الإسلام لولا صحبته للمجرم أُبَيِّ بن خلف. ومنها ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم في ربِّه حيث لم يتردَّد في إعلان قتله لعقبة إن وجده خارج جبال مكة وهذا اليقين لا يكون إلا بوحي لأنه لو وجده ولم يقتله كان مخالفًا للوعيد ومنها أن صلابة الداعية وقوته تُؤَثِّر في أهل الباطل فقد رأينا عقبة بعد ذلك لا تقوى قدماه على حَمْلِه إلى بدر خوفًا من محمد صلى الله عليه وسلم ومنها أن الكفار كانوا يُدركون صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمون أنه ما ينطق إلا بالحق ومنها أن كرامة الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام والأمة لا يصلح لها أبدًا أن تُهان ومن ثَمَّ أصرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل عقبة في بدر حتى لا يُفَكِّر غيرُه في أن يتهوَّر كتهوُّره وكذلك حتى يتحقَّق ما أخبر به سابقًا في مكة فتصحَّ بذلك نبوءته صلى الله عليه وسلم. ومنها أن أسباب قَتْل عقبة كثيرة غير سبب هذا الموقف كمحاولته خنق رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة -كما سيأتي في أحداث السيرة- وكتعديه بإلقاء سلا الجزور على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي أيضًا- وكحرصه على قتال المسلمين في بدر ولحوادث أخرى فعلها على مدار السنوات ومع ذلك فقد ذَكَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الموقف الذي بين أيدينا فقط لكي يُوَضِّح الآية ويُبْرِز معجزة إخباره بالغيب صلى الله عليه وسلم حيث قُتِل عقبة بالطريقة نفسها التي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها أمور أخرى كثيرة لا يَتَّسع المجال في الواقع لسردها فالنصَّيْنِ من النصوص الغنية جدًّا في التفاصيل.