بقلم: صادق الطائي* لا يمكن أن يوصف مشهد تعاطي بعض الدول مع لقاح استرازينيكا البريطاني إلا بأنه إعلان حالة حرب على الشركة المصنعة ومن ورائها بريطانيا إذ توالت ضربات دول الاتحاد الأوروبي عبر تصريحات رسمية وشبه رسمية تتهم اللقاح البريطاني بعدة اتهامات وطالبت عدة جهات حكومية بإيقاف استعماله. وقد كان الصراع البريطاني الأوروبي محور نقاشات قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة التي عقدت في بروكسل في 25 مارس الماضي بحضور الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن. وقد صرح قادة دول الاتحاد الأوروبي بالقول إن مجموعة استرازينيكا البريطانية – السويدية مطالبة بتزويد دول الاتحاد بكميات اللقاح المقررة بينهما في حين ترى المجموعة أن عقدها مع لندن يفرض عليها منح الأولوية للطلبات البريطانية. ونتيجة ضرب الموجة الثالثة من وباء كوفيد 19 لعدد من الدول الأوروبية التي تأخرت فيها حملات التطعيم ولم تصل إلى المستوى الذي يحميها من انتشار موجات جديدة فقد هدد الاتحاد الأوروبي بمنع صادرات شركة أسترازينيكا من اللقاح حتى تسلم دول الاتحاد الأوروبي الشحنات المتفق عليها. إذ لم تتمكن الشركة البريطانية – السويدية من تسليم الاتحاد الأوروبي سوى 30 مليون جرعة من أصل 120 مليون جرعة لقاحية كانت قد تعهدت بها في الربع الأول من العام الحالي. لذلك حذرت رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين قائلة: إن شركة أسترازينيكا لن تتمكن من تصدير أي من جرعات لقاحها المضاد لكوفيد – 19 المصنعة على الأراضي الأوروبية إلى خارج الاتحاد قبل أن يتسلم الأخير كامل الكميات المتأخرة من هذا اللقاح . وإذا أردنا أن نقف على بعض أسرار اللأزمة التي اندلعت بوجه أسترازينيكا مؤخرا لا بد من تسليط الضوء على جذور القضية وأسباب تصاعد وتشابك الصراع بين عالمي الأعمال والسياسة فقد كتب سايمون جاك في موقع بي بي سي تعريفا بتاريخ شركة أسترازينكا ذكر فيه أن الشركة في الأصل لم تكن لديها خبرة كبيرة في قطاع تصنيع اللقاحات فموقع قوتها كان تصنيع علاجات مرض السرطان. وعند ظهور جائحة كوفيد 19 لم تكن أسترازينيكا من بين الشركات التي عُلقت عليها الآمال. وكانت التكهنات تشير إلى اتفاق بين جامعة أوكسفورد وشركة الأدوية الأمريكية العملاقة ميرك. لكن الحكومة البريطانية كانت حريصة على أن تتشارك أوكسفورد مع شركة بريطانية ليكون للمملكة المتحدة حضور قوي في مسألة اللقاحات. وبدا الأمر منطقيا بالنسبة لأسترازينيكا فجامعة أوكسفورد قامت بأبحاث مكثفة أغلبها بتمويل من الحكومة البريطانية. وعند ظهور النتائج الأولية سادت أجواء من النشوة أوكسفورد وأسترازينيكا سيساعدان في إنقاذ العالم بلقاح آمن وفعال ورخيص تقدمانه بسعر التكلفة. ويمكن القول إن هذه ذروة النجاح فلا يمكن أن تكون الأمور أفضل من ذلك. النتيجة دخول شركة استرازينيكا في عالم صراع السياسات المغلف لصراعات الأعمال والتجارة ومع تلكؤ الشركة في توريد ما تعاقدت عليه من جرعات لدول الاتحاد الأوروبي ابتدأت بودار حملة من الاتهامات توجه للقاح أسترازينيكا إذ أوقفت عدة دول استعمال اللقاح منتصف شهر مارس الماضي على خلفية ظهور إصابات عدد ممن تم تطعيمهم بجلطات دموية أدت إلى وفيات بعض المصابين. سارعت شركة أسترازينيكا للدفاع عن منتجها بأن قدمت بيانات علمية ذكرت فيها وجود 37 حالة حدوث تجلط في الدم بين 17 مليون شخص تلقوا اللقاح. وطرحت الشركة تساؤلات علمية مفادها هل كان اللقاح هو سبب تخثر الدم؟ أم كانت هنالك أسباب أخرى أو حتى تم ذلك مصادفة؟ هل كانت حالات تخثر الدم تلك ستحصل بمعزل عن اللقاح؟ التقارير العلمية العالمية أشارت بدورها الى إن وقوع 37 حالة جلطة هي أقل من المتوقع وأن ليس هناك تفسير علمي مقنع يربط بين لقاح أسترازينيكا والإصابة بتجلط الدم لهذا السبب قالت هيئة ترخيص الأدوية في المملكة المتحدة إنه لا دليل على وجود صلة بين الأمرين. حرب اللقاحات ابتدأت مبكرا إذ حذرت بعض دول الاتحاد الأوروبي من لقاح أسترازينيكا وكانت ألمانياوفرنسا ودول أخرى قد تبنت موقفا حذرا في التعامل مع اللقاح المذكور حين أوصت بعدم استخدامه مع الأشخاص الذين يتجاوز سنهم الخامسة والستين. أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فقد شن حملة شعواء من التصريحات المضادة للقاح أسترازينيكا ولسياسة بريطانيا الصحية عندما قال إن لقاح أسترازينيكا المضاد لفيروس كورونا المستجد غير فعّال على ما يبدو بالنسبة للأشخاصو الذين تتجاوز أعمارهم 65 عاما . كما انتقد ماكرون استراتيجية بريطانيا في التطعيم القائمة على إطالة المدة بين أول وثاني جرعة بهدف تحصين أكبر عدد ممكن من الأشخاص. كما أكد ماكرون الهدف ليس منح أكبر عدد ممكن من الناس الجرعة الأولى . وأضاف يقول العلماء إننا نسرع عملية تحور الفيروس عندما نعطي جرعة واحدة.. نكذب على الناس عندما نقول تم تلقيحكم بعد إعطائهم الجرعة الأولى فقط . لكن تخبط القرارات العلمية في بعض دول الاتحاد الأوربي مثل ألمانياوفرنسا بلغ مراحل متقدمة إذ كان القرار الفرنسي في شهر مارس أن لقاح أسترازينيكا غير آمن أو غير فعال بالنسبة لكبار السن لكن يبدو أن القرار الطبي قد تغير في فرنسا إذ قررت السلطات الصحية تطعيم الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 55 عاما وأخذوا جرعة أولى من لقاح أسترازينيكا بجرعة ثانية من لقاح فايزر أو موديرنا لأن استرازينيكا غير آمن بالنسبة لصغار السن كما أعلنت الهيئة العليا للصحة في فرنسا في 9 نيسان/إبريل الجاري. ويشمل هذا الإجراء 533 ألف شخص وفقا للهيئة التي أوقفت إعطاء أسترازينيكا لمن هم دون سن 55 بسبب حالات نادرة من تجلط الدم. وكانت الدنمارك أول بلد تعلن تعليق استخدام لقاح أسترازينيكا في 11 مارس الماضي تبعته كل من ألمانياوفرنسا وإيطاليا وأيسلندا والنرويج وبلغاريا وهولندا وأيرلندا وإندونيسيا وتايلند. لكن ما هو رأي الجهات العلمية والطبية الدولية المستقلة التي من المفروض أنها موثوقة وغير منحازة؟ ما هو رأي الجهات العلمية الدولية في مخاطر التطعيم بلقاح أسترازينيكا؟ الإجابة جاءت من هيئة تنظيم الأدوية الأوروبية ومقرها أمستردام في 7 إبريل الجاري في بيان رسمي ورد فيه: خلصت لجنة السلامة التابعة لهيئة تنظيم الأدوية الأوروبية إلى أن جلطات الدم غير العادية مع انخفاض عدد الصفائح الدموية يجب أن تُدرج على أنها آثار جانبية نادرة جدا للقاح أسترازينيكا . وأوضحت إيمير كوك المديرة التنفيذية للهيئة في مؤتمر صحافي لم يتسن تأكيد عوامل خطر محددة مثل العمر أو الجنس أو التاريخ الطبي لأن الأحداث النادرة تظهر في جميع الأعمار . من جانب آخر صرح كريستيان ليندماير المتحدث الرسمي باسم منظمة الصحة العالمية وقال: لا يوجد دليل حتى اليوم على أن حوادث الإصابة سببها استخدام لقاح أسترازينيكا ومن المهم أن تستمر حملات التطعيم حتى نتمكن من إنقاذ الأرواح ووقف المرض الشديد الناتج عن الفيروس. وقالت الجمعية الطبية الأوروبية التي تجري أيضا في الوقت الحالي عملية مراجعة لحوادث الإصابة بجلطات الدم إن اللقاح يمكن أن يستمر استخدامه. كما صرحت هيئة تنظيم الأدوية في بريطانيا بأن الأدلة لا تشير إلى أن اللقاح يسبب جلطات دموية وحثت الهيئة المواطنين في البلاد على الحصول على اللقاح عندما يُطلب منهم ذلك. لكن يبدو أن حرب اللقاحات ستستمر إلى أن ينزاح هذا الكابوس.