بقلم: وائل عصام* في كل مناسبة سنوية لسقوط بغداد تُستعاد الذكريات والمواقف في تلك الأيام ما بين مرحب بالمحرر والناقم على الغازي وبالطبع فإن الشعور العام للعرب السنة في العراق والمشرق العربي هو النظر بعين الأسى لتلك الذكرى لأنها عنت في ما عنت اضمحلال دورهم في حكم العراق لصالح الشيعة والكرد لكن الحديث عن يوم التاسع من أفريل تحول بالنسبة للقطاع الأوسع من جمهور العرب السنة وكأنه سوق عكاظ بأشعار النحيب والبكائيات من دون تقديم أي مراجعة نقدية جادة تتعلم من دروس هذا الانهيار السريع للدولة العراقية وتلاشيها بينما تعود دولة طالبان اليوم بعد 18 عاما وينسحب الأمريكيون بعد فشلهم في محو طالبان ووجودها. من المحاولات النقدية النادرة جدا كتاب للقائد البارز في الحرس الجمهوري العراقي الفريق رعد الحمداني بعنوان قبل أن يغادرنا التاريخ يتحدث فيه عن ظروف ما قبل سقوط بغداد يوم 9 إبريل ويقدم تفسيرات للإخفاق وانتقادات لأداء القيادة السياسية والعسكرية والذهنية السائدة آنذاك ورغم أنه لم يخرج عن إطار المراجعة المهنية إلا أن هذا الكتاب لم يلق رواجا كبيرا لأن المزاج العام للجمهور السني المعارض للغزو الأمريكي هو الهروب من أي مراجعة جادة ونقدية للإخفاق والاكتفاء بممارسة طقوس التعزية نفسها منذ 2003. ولابد من ملاحظة أن محاولات الغزو الأمريكي في العقود الأخيرة لم تنجح إلا في بلد عربي في 2003 إذ فشلت في فيتنام ب50 ألف قتيل وفشلت في أفغانستان وعادت طالبان بعد 18 سنة. كذلك من المهم ملاحظة أن عناصر الجيش العراقي والحرس المنضوين لاحقا بالفصائل السنية للتمرد صمدوا لشهور في مدينة كالفلوجة أمام الجيش الأمريكي وظلوا لسنوات يشنون حرب عصابات ضد القوات الأمريكية وإن من دون تنسيق وقيادة موحدة. ما قاله الفريق الركن رعد الحمداني عن الإخفاق في الاداء العسكري والانهيار في صفوف القوات يقوله المئات من الضباط والأمنيين في جلساتهم الخاصة وهو يتطابق مع عشرات الشهادات والحالات التي عايناها مع غيرنا في بغداد يومي 6 و7 إبريل 2003 عن تسرب الضباط والجنود.. من إحدى هذه الحالات مثلا ما شاهدناه في 6 إبريل في أبوغريب كنا نراقب دبابة أمريكية تمركزت أمام سجن أبوغريب وفي الطريق إلى هناك كانت عدة مدرعات للجيش متوقفة (حرس جمهوري على الأغلب) وعندما اقتربت منهم كانت محركاتهم تعمل لكنها خالية بلا قائد الدبابة كانت متروكة بلا أي ساتر وبشكل مكشوف ساعات قليلة ثم قصفت.. أيضا كانت مضادات الطائرات الأحادية في بعض أحياء بغداد تترك بلا رام منذ بداية إبريل بشهادة أصدقاء ومسؤولين أمنيين وكان ضباط من المخابرات يأتون ويطلبون الرمي منها بضعة إطلاقات كل ليلة لأجل إشعار السكان بأن الدولة باقية. طبعا معروف أن هناك مواجهات مهمة وقصص صمود سطّرها من صمد من وحدات الجيش والحرس الجمهوري في أم قصر والكوت والكفل وجسر القائد في اليوسفية وغيرها ولكنها أيضا كانت محدودة مقارنة بمواجهات القوات غير النظامية مثل فدائيي صدام والمقاتلين العرب مع الجيش الأمريكي. لو نظرنا لتقرير الجيش الأمريكي الخاص بعملية الغزو لوجدنا حديثا مفصلا عن اختفاء وتلاشي قوات الجيش العراقي وظهور قوات غير نظامية مثل فدائيي صدام الذين يتحدث التقرير عن عملياتهم التي أزعجتهم أكثر من الجيش بمراحل خلال تقدم القوات الأمريكية نحو بغداد خصوصا في الناصرية حيث أوقع الفدائيون رتلا أمريكيا لفرقة فنية في كمين نيرانهم وقتل يومها 8 جنود وخطف آخرون حررهم الأمريكيون لاحقا. الفريق رعد الحمداني أقر بوقوع انسحابات وانهيارات سريعة في صفوف القوات العسكرية العراقية وشرح بعضها مثل الفيلقين الأول والخامس شمال العراق انهارا من دون معارك واستسلمت قياداتهما. كما أقر بتسرب ضباط الجيش والحرس الجمهوري وأكد أن معظم مواجهات بغداد نفذها فدائيو صدام والمقاتلون العرب كما في تقاطع أم الطبول غرب بغداد. أما في معركة المطار الشهيرة فقد شارك فيها الحرس الخاص والفدائيون والعرب كان من قادتها العقيد عاصي العبيدي الذي انضم ل تنظيم الدولة لاحقا وهو بالمناسبة ليس من الحويجة كما هو شائع وبالطبع نسج الكثير من الروايات المليئة بالمبالغات حول ما حصل في معركة المطار ونوعية الأسلحة المستخدمة التي لم تخرج عن إطار الأسلحة التقليدية. كما ذكر الحمداني أيضا بطولات فردية لبعض الضباط مثل الضابط الذي أعلن نفسه شهيدا قبل تحركه بعربته العسكرية نحو خطوط المواجهة ولم يتمكن رفاقه من انتشال سوى رتبه العسكرية. وفي جنوببغداد وقعت معركة بسماية وقد قتل فيها اثنين من زملاء الدراسة من اتحاد طلاب اليمن وسوريا. ومن القصص المؤلمة في الحرب قصة صديق يمني اسمه محمد القب كان ناشطا بعثيا ونقابيا في اتحاد طلبة اليمن في العراق الذي كان يرأسه حينها الدكتور أحمد عوض بن مبارك وهو وزير الخارجية اليمني الحالي محمد ترك زوجته العراقية وابنته وذهب للقتال جنوبالعراق ولم يعثر على جثته لاحقا وما زالت أخبار أسرته العراقية مجهولة لأصدقائه. الاعتراضات الأساسية للفريق الحمداني على خطة القيادة العراقية للحرب كانت في نقطتين الأولى قرار الرئيس بسحب فرقتين من جنوببغداد إلى الغرب من بغداد لكن هذا لم يكن ليغير نتيجة الحرب باعترافه أما الاعتراض الثاني فقد كان على ما يسميه الحمداني القتال بالكتل الكبيرة المكشوفة للطيران إذ طالب الحمداني باعتماد خطة شبيهة ب حرب عصابات بقوات نظامية تقاتل بكتل صغيرة وهذا الاعتراض كان سيغير نتيجة الحرب بالصمود لشهور وهذا ما أكده جنرال أمريكي ومؤرخ عسكري قال إن تحصين بغداد والقتال فيها لشهور كان من الممكن أن يطيل أمد الحرب ويسمح للضغوط السياسية بالعمل واقعيا فإن حرب العصابات هو ما طبقته فصائل التمرد السني وإن من دون تنسيق كبير بينها ومن دون قيادة موحدة. وحسب الحمداني وعدة ضباط أمنيين فإن اهتمام القيادة الأساسي قبل الاحتلال انصب على وضع خطط للحرس الجمهوري والخاص ضد تحرك من المناطق الشيعية ببغداد أكثر من تعرضها لغزو أمريكي وكان صدام مقتنعا حتى آخر أيامه بأن الأمريكيين لن يدخلوا بغداد بل سيحاصرونها للتفاوض لذلك كان مهتما بمنع استغلال المعارضة الشيعية للغزو كما حصل عام 1991. يقدم الحمداني نقدا ومراجعة نادرة لآليات اتخاذ القرار وذهنية المسؤولين ويقول إنه لم يكن لدى القيادة العراقية طريقة مؤسساتية في اتخاذ القرار ويخلص إلى أن العراق كان هشا عكس الظاهر ويشرح عدة ظواهر مثل شدة الخضوع لإثبات الولاء السياسي وأن المسؤولين كانوا أشكالا بلا جوهر ولا دور ويضع يده على أحد عيوب ملامح الخطاب التثقيفي والتعبوي الخاطئ الذي كان ومازال منتشرا في العراق وفي صفوف أنصار النظام السابق تحديدا وهو تعظيم المعنويات على حساب الحقائق من المهم الانتباه لذهنية المراجعة والنقد قبل أن يغادرنا التاريخ .