بقلم: الدكتور محمد بغداد يغرق الجميع في موجات الاحتفال باليوم العالمي بحرية التعبير وإن كان الأمر مشروعا ومحبذا لقوافل الشباب الذين يطارودن المعلومة ويصطادون الخبر في كل موقع ويلاقون من ذلك المتاعب والآلم الشديدة والمتنوعة إلا أن الغائب الأكبر في مختلف احتفالاتنا هو تلك المقومات الرمزية والمادية التي نؤسس عليها هوية إعلامية ذاتية تقدم لنا العزاء في مقابل المتعاب وتقدمنا للأخرين بطابع متميز وخاص وتفيد الأجيال الجديدة بما ينتظرونه من منابع القواعد والأسس التي تحقق التوزان النفسي والميداني وبالذات منها الروافد المؤسسة للتجربة الإعلامية الجزائرية. المنطلق والمنابع بعدما استكمل دراسته في مسقط رأسه بمدينة قسنطينة وتحصل على اجازة العلامة الكبير الشيخ عبد القادر المجاوي وصل الشاب محمود كحول ابن دالي إلى العاصمة إتجه للعمل في جريدة المبشر التي كانت قد ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر في الجزائر وفي وقت قصير أصبح محمود كحول ابن دالي من أبرز أعضاء هيئة تحريرها. ولكن الشاب محمود كحول ابن دالي لما حقق سمعة كبيرة في جريدة المبشر وامتلك أعنة الممارسة الصحفية وسطع نجمه سارع إلى تأسيس جريدة كوكب إفريقيا في بداية القرن العشرين وهي الجريدة الاسبوعية التي كانت باللغة العربية وهي أول جريدة يصدرها مسلم جزائري. مع إدارته لجريدة كوكب إفريقيا كان محمود كحول ابن دالي منشغلا بالكتابة فأصدر كتابه التقويم الجزائري الذي تضمن معلومات متنوعة عن الجزائر في ميادين مختلفة علمية وإقتصادية وفلاحية وأدبية و فلسفية وتراجم لشخصيات جزائرية كثيرة. لقد تولى الشيخ محمود كحول منصب مفتي مدينة عنابة ثم منصب مفتى الجزائر خلفا للشيخ العلامة أبو القاسم الحفناوي ليجمع الشيخ محمود كحول ابن دالي بين التفوق في العلوم الدينية والبراعة في فنون إدارة الفتوى والتحكم في الممارسة الصحفية ليؤسس بذاك تيارا إعلاميا له تأثيره في صناعة الهوية الإعلامية الجزائرية. الورثة السابقون لقد استطاع مفتى الجزائر ان يضع الارضية القوية لتيار إعلامي في بداية القرن العشرين وهو النهج الذي سارع بعض الجزائريين إلى وراثته أبرزهم جمعية علماء السنة الجزائريين التى سارعت إلى الاعتماد على العمل الصحفي فأنطلقت تؤسس مشروعها الإعلامي الذي يعبر عنها وينشر أفكارها ويكون منبرها للتعريف بوجهات نظرها والتسويق لمواقفها فأسست العديد من الجرائد منها جريدة الإخلاص وجريدة المعيار وجريدة البلاغ وقد أوكلت جمعية علماء السنة الجزائريين مشروعها الإعلامي لقيادة مصطفى هراس الذي حرص على قيادة هذا المشروع الذي جاء في سياق الحضور المتصاعد لجمعية علماء السنة الجزائريين التي جاءت كرد فعل على نتائج الجمعية الانتخابية الثانية لجمعية العلماء المسلمين والتي شرعت في التجسيد الميداني لشخصيتها في مقابل الحضور المتصاعد لجمعية العلماء. ملامح المشروع لقد سمح المشروع الإعلامي لجمعية علماء السنة الجزائريين من الظهور القوي لمنافس إعلامية بين النخب الاصلاحية الجزائرية التي قدمت افكارها وعبرت عن مواقفها وقدمت وجهات نظرها في كل القضايا التي كانت تشغل بالها وهي الفرصة التي كانت سانحة لها لتؤسس منهجية نضالية متعددة الجوانب والمساحات بالرغم ما تميزت بها من الكثير من العلامات التي يمكن أن تكون علامات فارقة في تاريخ الممارسة الإعلامية الجزائرية والتي تصلح ان تكون مشاريع بحث علمي ودراسة أكاديمية لاستخلاص المهنية والاحترافية من تداعياتها في بناء ذهنية إعلامية جزائرية متميزة. المشروع الإعلامي لجمعية علماء السنة الجزائريين جاء في سياق رد الفعل ومسايرة الواقع القائم مستعينا بما تحقق من ثراء إعلامي وما تراكم من خبرات صحفية حتى تتمكن من التواصل مع الرأي العام وحشد التأييد لأفكارها ومساندة وجهات نظرها إلا أن المشروع لم يكتب له الاستمرار لأطول وقت ممكن حسب ما كان متوقع له بالرغم من الامكانيات المادية الكبيرة التي خصصت له لأنه لم يعتمد على العوامل المناسبة والحقيقية التي توفر لها النجاح وبالذات تلك العوامل الأولية والضرورية التي يتطلبها هذا النوع من المشاريع وعلى وجه الخصوص الرؤية الاستراتيجية التي تحتضن المشروع والأهداف الأساسية التي يقوم عليها والمساحات الحيوية التي يتحرك فيها. عوائق الطريق إن المشكلة الكبرى التي عان منها المشروع الإعلامي لجمعية علماء السنة الجزائريين تمثلت في فقدانها للنخب الإعلامية المحترفة التي تحتوي المشروع وتقدم فيه جهودها وتستثمر مهاراتها ويتجلى فيه ابداعاتها تكون على دراية واسعة بأهداف المشروع ومندمجة فيها فكريا وشعوريا وتمتلك من المساحات الابداعية ما يجعلها تقدم فيها إضافتها الإعلامية كون المشاريع الإعلامية الكبرى تكون تكاليفها باهظة وبالذات التكاليف الفكرية والخبرات والمهارات التقنية والمهنية التي تجعل منها تنتج رسالة قوية تحقق أهداف المشروع بعيدا عن تلك السياقات التقليدية التي يتم الإعلان عنها في الخطاب الايدولوجي التأسيسي. ومن أهم ما ميز المشروع الإعلامي لجمعية علماء السنة الجزائريين أنه بقى محصورا في تلك الذهنية القيادية الصوفية التي لم تستلهم التقنيات والأساليب الإعلامية التى يتطلبها المشروع ومن أهم ما يصيب المشاريع الإعلامية في مقتلها عندما تقع هذه المشاريع تحت طائلة هيمنة الذهنيات القيادية غير الإعلامية معتقدة أن منهجها ومنطقها الايديولوجي كفيل بأن يدير منهجية الممارسة الإعلامية ففي الوقت الذي كان يتطلبه المشروع الإعلامي لجمعية علماء السنة الجزائريين توفير تلك الطاقات والإامكانيات البشرية والإبداعية التي تعمل على توفير النجاح له وتسير به نحو الترويج والتأثير والتسويق للأفكار الكبرى التي يحملها مشروع جمعية علماء السنة الجزائريين ويقدم وجهة نظرها في الساحة في مقابل وجهة نظر جمعية العلماء المسلمين نجده يركن إلى الخضوع للذهنية التقليدية ويبتعد عن الاحترافية والتمثيل الميداني الشعوري والجماعي للرأي العام. إن المساهمة التي قدمتها جمعية علماء السنة الجزائريين في المجال الإعلامي تعد بحق قيمة مضافة للممارسة الإعلامية الجزائرية كونها جسدت تلك الرغبة في الابداع والحرية والتعبير عن المواقف ووجهات النظر بالأدوات المتوفرة والتي عرفت جمعية علماء السنة الجزائريين كيف تستفيد منها وتوظفها في سياقها التاريخي الذي يجعلها ثراء جديدا للمسيرة التاريخية للتجربة الإعلامية الوطنية وهي في حاجة ماسة اليوم إلى الإثراء والدراسة المتخصصة بهدف الارتقاء بها والسعى إلى الاستثمار فيها حتى تستند عليها الأجيال الجديدة في المستقبل. الاستئناف المؤجل إن تركة مفتى الجزائر الشيخ محمود كحول ابن دالي المتمثلة في القدرة على التفوق في العلوم الدينية والبراعة في فنون إدارة الفتوى والتحكم في الممارسة الصحفية تقع مسؤوليتها على المؤسسة الدينية الجزائرية اليوم باعتبارها المؤسسة المستأمنة على المنظومة الرمزية للمجتمع وهي السباقة إلى استئناف المشروع الإعلامي لمفتى الجزائر والقيام بالواجبات الاخلاقية الملزمة بها والمسارعة إلى إعادة الاعتبار للخدمات التي يتوقعها ويطلبها المجتمع منها على أساس أن المرحلة الحالية تفرض بتحدياتها واكراهاتها على المؤسسة الدينية أن تكون الخادم الابرع والمسارع الأقرب إلى الأجيال الجديدة من خلال الرؤية الواضحة والإستراتيجية النوعية والقدرات الذكية التي تقتبس من تركة مشروع مفتى الجزائر أنوارها في التكيف مع الثورات التكنولوجية الاتصالية الحديثة والوصول إلى تقديم الإضافة المنتظرة والمساهمة المتوقعة لبريق الهوية الإعلامية الجزائرية. إن أفضل وفاء للمشروع الإعلامي لمفتى الجزائر تقوم به المؤسسة الدينية الجزائرية اليوم يرتكز على ثلاثة التفوق في العلوم الدينية والبراعة في فنون إدارة الفتوى والتحكم في الممارسة الصحفية ليتم تجاوز العقبات القائمة عبر فهم الاختلال الذي تعرض له هذا المشروع في بعض مراحل الورثة السابقون الذين يكفيهم اجتهادهم وأن المرحلة الحالية الواجب فيها العمل على الاستئناف المعتمد على ثلاثة النجاح.