بقلم: علي محمد فخرو* للمؤرخ البريطاني الشهير توينبى تفسير لتاريخ الحضارات البشرية يتمثل في وجود تحد حضاري يحتاج لتصحيحه وإرجاع ألقته وحيويته إلى رد فعل حضاري. فلقد حضرت خلال هذا الأسبوع لقاءين على شبكة التواصل الإلكتروني: أحدهما يتعلق بالوضع الحالي للبحث العلمي ومؤسساته في الوطن العربي والثاني يتعلق بانعكاسات إشكالية بناء سد النهضة الإثيوبي على نهر النيل على الأمن المائي في مصر والسودان. وخرجت بانطباع يتكرر عندي بعد حضور كل مؤتمر فكرى سيأسى أو اجتماعي – اقتصادي مؤداه أن النخب العربية تظل تدور في حلقة الاهتمام بأعراض المرض العربي الأساسي وصفا وعلاجا جزئيا سطحيا وبكائيات لا تنتهى دون أن تتوجه للمرض نفسه تشخيصا علميا وعلاجا شاملا بأنجح الوسائل مهما كان ثمن ذلك العلاج والآلام المصاحبة له. فالحديث عن زيادة ما يصرف من أموال على البحث العلمي أو إجراء إصلاح هنا أو هناك لن يؤدى إلى نتيجة إذا كانت البيئة الاجتماعية بكل مكوناتها طاردة لكل متطلبات البحث العلمي. ذلك أن الارتفاع الكبير في نسبة الأمية في الكثير من أقطار الوطن العربي وفي أعداد الأطفال الذين لا يجدون مدارس ويعيشون في مخيمات البؤس والجوع في شتى الأقطار الكبيرة المنكوبة والتراجع في مستوى وكيفية التعليم الذى تشير إليه الكثير من التقارير المحلية والدولية والدمار الأمني والاقتصادي والاجتماعي الذى طال جزءا هائلا من الوطن العربي وأوصله إلى حافة الفقر المدقع وتعاظم هجرة المتعلمين والأخصائيين والعلماء العرب إلى خارج الوطن العربي هربا من تلك الأوضاع أو مطاردة من قبل قوى الأمن.. كل ذلك يجعل من الحديث عن البحث العلمي ملهاة لا معنى لها إذ من المستحيل القيام بالبحوث وإيجاد القوى المبدعة المدربة للقيام بها والاستفادة من نتائج البحوث في الصناعة والزراعة والثقافة وتنظيم المجتمع في بيئة مجتمعية بائسة كالتي تعيشها أغلب المجتمعات العربية. والأمر نفسه ينطبق على موضوع سد النهضة. إنه هو الآخر عارض من أعراض مرض خطير تماما كالعجز أمام حصار وتجويع الشعب العربي السوري وسرقة بتروله وغازه من قبل أمريكاوتركيا وتماما كما تفعل تركيا بنهري دجلة والفرات في العراق وسوريا وتماما كما تتدخل إيران في الأوضاع العراقية المحلية وتماما كما تستبيح الولاياتالمتحدةالأمريكية كل ساحات الحياة العربية وتماما كما تفعل السلطات الصهيونية في فلسطين نهبا للأرض والماء وتدميرا لكل مظاهر الحياة الفلسطينية المادية والمعنوية.. إلخ.. إلخ.. من قائمة تزداد يوميا في قتامتها وأخطارها. وإذن فالحديث عن أخطار سد النهضة والعجز العربي أمامه والدخول في مناقشات قانونية وفذلكات سياسية دولية هو حديث عن أعراض مرض أساسي عربي يقف وراء كل تلك الأعراض. ذلك المرض يتمثل في غياب مفجع لإرادة عربية قومية مشتركة تقف في وجه كل من يهدد أى جزء من الوطن العربي وتتكاتف من أجل مساعدة أي قطر في محنة وتفعّل كل الأدوات والمؤسسات القومية المشتركة وتبنى أنواع جديدة حديثة منها. في الوقت الحالي لا يمكن مع الأسف الاعتماد على غالبية أنظمة الحكم العربي من أجل بناء تلك الإرادة وتنظيمها وتفعيلها في الحياة العربية. فالصراعات فيما بين بعضها هو أحد أسباب غياب تلك الإرادة. ولا يبقى إلا المجتمع المدني العربي كأمل أخير لبناء تلك الإرادة والضغط على أنظمة الحكم للدخول في عملية بناء تلك الإرادة. لكن هناك حاجة لقوى شجاعة وكفؤة في ذلك المجتمع العربي لوضع تصور فكرى واستراتيجي وتنظيمي لذلك المشروع وطرحه وقيادة الانتقال إليه. عند ذاك سننتقل من الدوران حول الأعراض إلى معالجة المرض العربي المسبب لكل تلك الأعراض. وذلك هو الخطوة الأولى في رد الفعل الحضاري على التحدي الحضاري الذى نواجهه.