بقلم: حسن أبو هنية* لا تعدو هجمات تنظيم الدولة الأخيرة في العراقوسوريا عن كونها فحصا تقديريا لحجم وإمكانات قوة وقدرات مقاتلي التنظيم من جهة وتجربة اختبارية للتعرف على قدرات القوات العراقية وقوات سوريا الديمقراطية من جهة أخرى وذلك لمعرفة حدود استجابة قوات التحالف الدولي مع تدشين نسق جديد من الهجمات أكثر تعقيداً وأوسع نطاقاً. إذ يعمد تنظيم الدولة عادة إلى تنفيذ هجمات اختبارية معقدة قبل التحول إلى إقرار خطط جديدة في إطار استراتيجية استنزاف بعيدة المدى. ومنذ خسارة تنظيم الدولة آخر مناطق سيطرته المكانية مارس 2019 عمل التنظيم على إعادة الهيكلة والتكيف مع الواقع الجديد وعاد إلى العمل في إطار منظمة لا مركزية تستند إلى منطق حرب العصابات والاستنزاف تقوم على الحفاظ على مستوى منخفض من التمرد يعتمد على الثبات والصبر باستدامة شن هجمات وتصعيدها ببطء محسوب. وتشير الهجمات الأخيرة إلى أن تنظيم الدولة سوف يتبنى تكتيكات جديدة لا تختلف عن الخطة القديمة جوهرياً بإسقاط المدن مؤقتاً لكنها ستكون أكثر شمولاً وأوسع نطاقاً حيث سيعتمد التنظيم في هجماته المستقبلية بصورة أكير على نمط العمليات الانتحارية والانغماسية والاقتحامات مع بقاء تكتيكات الاغتيال والعبوات والقنص وغيرها. في سياق اختبار قدراته الهجومية وفحص قدرات القوات العراقية والكردية شن تنظيم الدولة هجوماً فجر الجمعة (21 جانفي) على أحد مقار الجيش العراقي في محافظة ديالى شرق البلاد قتل فيه 11 جندياً أحدهم ضابط برتبة ملازم ثم انسحب التنظيم دون خسارة أي من مقاتليه. وكانت آخر الهجمات الأكثر دموية التي شهدتها العاصمة بغداد في جويلية 2021 وهو تفجير في مدينة الصدر قتل فيه أكثر من 30 شخصاً وتبنّاه التنظيم. على الجانب الآخر هاجم عناصر من تنظيم الدولة سجناً يديره الأكراد في محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا ليلة الخميس/ الجمعة (20/ 21 جانفي) وتحولت المنطقة إلى ساحة حرب بعد تمرد داخلي وهجوم خارجي بدأته خلايا تتبع التنظيم في سجن الصناعة بحي غويران. ويضم السجن نحو 3500 سجين من عناصر وقيادات تنظيم الدولة وقد شهد السجن خلال السنوات الماضية عدة حركات تمرد ومحاولات اقتحام. اعتمد التنظيم في الهجوم الأخير على السجن في الحسكة على نمط العمليات الانتحارية والانغماسية والاقتحامات والاشتباك المباشر حيث قام بتفجير سيارة مفخخة بالقرب من السجن في منطقة تضم العديد من الصهاريج المحملة بالمحروقات وبالتزامن مع الانفجار الذي أدى إلى اشتعال عدد من الصهاريج بدأ السجناء تمرداً داخل المهاجع التي يحتجزون فيها حيث أقدموا على حرق الأغطية والمواد البلاستيكية في محاولة لإحداث الفوضى بحسب بيان نشرته قوات سوريا الديمقراطية . وقالت قسد في بيان إن قوات تابعة للتحالف الدولي تقوم باستهداف مجموعات من خلايا تنظيم داعش محيط سجن الصناعة في مدينة الحسكة . ونقلت وكالة أعماق التابعة لتنظيم الدولة عن مصدر أمني أن مقاتلي التنظيم يشنون منذ مساء الخميس هجوماً واسعاً على سجن غويران بهدف تحرير الأسرى المحتجزين بداخله وأن الاشتباكات مستمرة في أماكن قريبة وفي أحياء أخرى. ونتيجة للمواجهات العسكرية المستمرة في مدينة الحسكة فرضت قوى الأمن الداخلي (أسايش) حظراً كلياً على المدينة مع منع الدخول إليها والخروج منها حتى إشعار آخر تفادياً لخروج خلايا التنظيم خارج المنطقة بالتزامن مع استمرار الأعمال العسكرية ل قسد بدعم جوي من مروحيات التحالف الدولي في محيط سجن غويران ضد خلايا من تنظيم الدولة استعصت في حيي الزهور والمقابر المحاذيين للسجن. وتشير التقديرات الأولية إلى أن الهجوم أسفر عن سقوط أكثر من 90 قتيلا وإصابة مئات آخرين. *خط الإرهاب لم تكن هجمات تنظيم الدولة في العراقوسوريا مفاجئة إذ تشير كثير من التقييمات إلى أن خطر التنظيم في العراقوسوريا لم ينته فادعاء القضاء على تنظيم الدولة وإلحاق هزيمة كاملة بالتنظيم لا تزال بعيدة المنال. فقد جادل مسؤولون في الإدارة الأمريكية بأن إلحاق الهزيمة الدائمة بداعش مستحيلة فالهزيمة الدائمة تتطلب معالجة كل هذه الأسباب الجذرية. تستند تقديرات قوة تنظيم الدولة وإمكانية عودته إلى مؤشرات عديدة أيديولوجية وهيكلية ومالية ومنها الحفاظ على قدرة تشغيلية جيدة بزيادة حجم الهجمات وتنوعها في العراقوسوريا. فبعد مرور عام على سقوط الباغوز وحتى 19 مارس 2020 أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن أكثر من 2000 هجوم في العراقوسوريا. وفي سوريا ادّعى التنظيم قيامه ب973 هجوماً وزادت هجمات التنظيم عام 2020 حسب إحصاءات التنظيم التي نشرها في صحيفة النبأ عدد الهجمات في مختلف مناطق نشاطه في آسيا وأفريقيا وأوروبا. ويوضح الإنفوغرافيك الذي عنونته ب حصاد الأجناد 1442 أن عدد هجمات التنظيم بلغ نحو ثلاثة آلاف هجوم نتج عنها مقتل وجرح أكثر من ثمانية آلاف شخص وتدمير أكثر من 1260عربة وتدمير 137 كاميرا حرارية يبدو أن أغلبها كان في العراق إضافة إلى استهداف أبراج الطاقة الكهربائية وإيقاف 153 برجا عن العمل. كما دمر التنظيم وحرق 247 بيتا ومزرعة فيما هاجم مقاتلوه 93 مقراً وثكنة عسكرية أو تابعة للميليشيات في مختلف المناطق. وتتوزع الهجمات بين العراقوسوريا وصولا إلى الهند وخراسان والفلبين في شرق آسيا وسواحل غرب أفريقيا وليبيا وتونس وصحراء سيناء المصرية. وتركز أكثر من نصف الهجمات في سورياوالعراق وحدهما حيث بلغ عدد أعمال التنظيم في العراق وحده 1304عمليات نتج عنها مقتل وجرح 2286 من قوات الجيش العراقي والحشد الشعبي والمليشيات التابعة له بمختلف تنوعاتها. تشير تقارير استخبارية ودراسات بحثية متنوعة إلى أن عودة تنظيم الدولة في العراقوسوريا ممكنة إذ لا يزال الاستقرار بعيد المنال. فقد شهد العراق تصاعداً لهجمات داعش في ظل ديمومة المظلومية السنية وتنامي المشاعر الطائفية تجاه النفوذ الشيعي والإيراني وصعوبة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فضلاً عن شيوع الفساد وفشل سياسات الحكومة المحلية. فالركائز الأساسية لخطاب تنظيم الدولة تتجذر في مناصرة السكان السنة في العراقوسوريا وعدم معالجة الإخفاقات الشديدة في الحوكمة وهو ما أدى إلى موجة جديدة من الاحتجاجات في العراق في أكتوبر 2019. *زمن الخراب وفي سوريا يبدو الوضع أكثر تعقيداً فبعد نحو عشر سنوات على الحرب في سوريا لا تزال البلد بعيدة عن الاستقرار والتوصل إلى حل سياسي مستدام إذ يسيطر النظام السوري على أكثر من نصف مساحة البلاد لكنه فقد سيادته عملياً على الأرض السورية فالحدود الدولية لسوريا تخضع في معظمها لسيطرة قوى خارجية حيث تسيطر الحكومة على 15 في المئة من مجموع الحدود فقط. كان دور الولاياتالمتحدةالأمريكية أساسياً في هزيمة تنظيم الدولة في العراقوسوريا وقد تتعرض جهود مكافحة الإرهاب لانتكاسة كبيرة إذ سحبت الولاياتالمتحدة قواتها المتمركزة في سورياوالعراق وقوامها في البلدين ثلاثة آلاف جندي كما فعلت في أفغانستان. وتبدو مسألة الانسحاب الأمريكي من المنطقة منطقية في إطار المراجعة الأمريكية للحرب على الإرهاب بإعادة التوازن والتنافس بين الدول وأولوية المحور الآسيوي لمواجهة الصين. تبلورت المقاربة الأمريكية بوضوح في استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكي لعام 2018 التي نصت على أن التنافس الاستراتيجي بين الدول هو اليوم الشاغل الرئيسي للأمن القومي الأمريكي وليس الإرهاب . فقد تراجع الاهتمام الأمريكي بملف الإرهاب العابر للحدود وفي نوفمبر 2019 قال القائم بأعمال مدير المركز الوطني لمكافحة الإرهاب في الولاياتالمتحدة راسل إي ترافرز: لن نقضي على الإرهاب قط ولكن تم إنجاز قدر هائل من الأعمال الهامة مما يسهل إجراء محادثة حول المخاطر المقارنة . وقد تبلورت المقاربة الأمريكية بوضوح في استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكي لعام 2018 التي نصت على أن التنافس الاستراتيجي بين الدول هو اليوم الشاغل الرئيسي للأمن القومي الأمريكي وليس الإرهاب . ولكن مع بدء إدارة بايدن في تنفيذ قرارها بسحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان أثبتت ترجمة هذه الأفكار على أرض الواقع أنها هدف بعيد المنال. رغم خسارة تنظيم الدولة آلاف المقاتلين تتفاوت التقديرات حول أعداد القتلى على مستوى الأفراد فلا يزال يتوافر على آلاف المقاتلين وتختلف التقديرات حول أعداد مقاتلي التنظيم في العراقوسوريا وذلك بسبب احتساب الخلايا الناشطة إلى جانب الخلايا النائمة حيث تقدر مصادر متنوعة العدد الإجمالي بنحو 30 ألف مقاتل. أما الأعضاء الفاعلون فقد أعلن فلاديمير فورونكوف مسؤول مكافحة الإرهاب التابع للأمم المتحدة في 25 اوت 2020 أن التقديرات تشير إلى أن أكثر من 10 آلاف من مقاتلي تنظيم داعش ما زالوا نشطين في العراقوسوريا بعد عامين من هزيمة التنظيم وأن هجماتهم زادت بشكل كبير هذا العام. وأخبر فورونكوف مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن مقاتلي داعش يتحركون بحرية في خلايا صغيرة بين البلدين وأكد أن داعش أعاد تنظيم صفوفه وزاد نشاطه ليس فقط في مناطق الصراع مثل العراقوسوريا ولكن أيضاً في بعض الفروع الإقليمية. خلاصة القول أن هجمات تنظيم الدولة الأخيرة في العراقوسوريا جاءت تتويجاً لاستراتيجية التنظيم الصبورة إذ لا يبدو تنظيم الدولة متعجلاً وهو ينتهز الفرص السانحة ويبني استراتيجيته وفق حسابات تستند إلى تبدل البيئة الدولية بالتعامل مع مسألة الإرهاب العابر للحدود. فقد بدلت واشنطن وشركاؤها الأوروبيون أولوياتهم تجاه قضايا جديدة في عصر تتنافس فيه القوى العظمى وينتشر خلاله فيروس كورونا وتتفاقم أزمة المناخ ويتنامى إرهاب اليمين الداخلي حيث تراجعت مكافحة الإرهاب العابر للحدود إلى الخلفية. إلى جانب ذلك لم تحقق الدول التي عانت من تنامي صعود الجماعات الجهادية أي تقدم في معالجة الأسباب العميقة الدافعة للتطرف العنيف والإرهاب المتجذرة داخل الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتفاقم دون معالجة جدية.