مراصد إعداد: جمال بوزيان من أجل الشأن العام.. السياسي الناجح يوفّق بين المبادئ والمَصالح في آن واحد ترصد أخبار اليوم مقالات الكُتاب في مجالات الفكر والفلسفة والدِّين والتاريخ والاستشراف والقانون والنشر والإعلام والصحافة والتربية والتعليم والصحة والأدب والترجمة والنقد والثقافة والفن وغيرها وتنشرها تكريما لهم وبهدف متابعة النقاد لها وقراءتها ثانية بأدواتهم ولاطلاع القراء الكرام على ما تجود به العقول من فكر متوازن ذي متعة ومنفعة. هل السياسة تحكمها الأخلاق؟ أو ثنائية المبدأ والمصلحة ؟ أ. م. رابح لكحل أعتقد أن من الأسباب المباشرة التي أدت إلى عزوف الناس عن ممارسة العمل السياسي (وخاصة الرساليون منهم) وتخليهم عن المساهمة في الشأن العام وزهدهم عن الانخراط في أشكاله المختلفة القضية المُشْكَلة والملتَبِسَة التي يقف عندها الحليم حيرانا ألا وهي إمكانية الجمع بين الأخلاق والسياسة؟ أو بتعبير آخر إشكالية الجمع بين المبدإ والمصلحة!.. شخصيا (ربما كغيري) أربكتني هذه القضية كثيرا بحيث أدخلتني في مرحلة ما في حالة شك في ما مدى واقعية ما أحمله من أفكار وقناعات مبدئية وإمكانية تطبيقها في واقع الناس وكانت حالة الريب نتاجا لعدة أسباب مختلطة من قبيل: 1-الواقع ومفهومه المحرف والمتوارث للسياسة والذي ملخصه عبارة السياسة نجاسة التي يرددها الناس بصيغ مختلفة. 2-اعتماد مصطلح البوليتيك كمفهوم سيئ السمعة بمعني الاحتيال بالسفسطة ومغالطة الناس. 3-مما نسمع ونرى من ممارسات لا أخلاقية يعتمدها مُدَّعو السياسة (منتحلو الصفة). 4-مما عايشناه ولمسناه من انقلاب الناس على أعقابهم وخيانتهم لرفقاء دربهم وحتى لمبادئهم التي عُرفوا بها متى نالوا بعض المغنم. 5-الظلم والفساد الذي نعاني منه يوميا باسم السياسة (البوليتيك). 6-التضليل الواسع الذي تعرضنا له باسم تاريخنا السياسي (قديمه خاصة) والخلط المتعمد بين ممارسات الناس ومرجعيتنا القيمية. والمؤلم أن لهذه الأسباب وغيرها تأثيرا سلبيا لم يتوقف فقط عند تغييب وعي الناس بأهمية السياسة وتأثيرها الكبير والمباشر على حياتهم بل زيفت تزييفا بالغا مفهومهم للشأن العام وحرفت تحريفا سيئا حدود اهتمامهم به فانصرفوا عنه خوفا من أن تلطخهم نجاسته.. وأصبح من يتصدره مدانا حتى تثبت براءته..! والحقيقة فحكم الإدانة ليس خاطئا تماما لأن القشرة الظاهرة والمقدمة كطبقة سياسية (وهي كاذبة) في مجملها تمارس البوليتيك بلا ضوابط تحكمها أو ترشدها. ومما أذكره أنني ناقشت بعضهم (منهم من أصبح وزيرا ومنهم البرلماني ومنهم من اشتهر بصفته سياسيا..) في هذا الموضوع بالذات وطرحته حينذاك وفق صيغة بأربع أسئلة محتملة: أ- هل نسعى من أجل المبدإ ونهمل المصلحة؟ ب- هل نسعى من أجل المصلحة ونهمل المبدأ؟ ت-هل نسعى من أجل المصلحة ولا نغفل عن المبدإ؟ ت- هل نسعى من أجل المبدإ ولا نَغفل عن المصلحة؟. ونحصل على المعاني نفسها لو صيغت الاحتمالات باستعمال ثنائية السياسة والأخلاق وحتى نضبط مصطلحاتنا ولا تتشعب بنا المفاهيم أقصد بالحكم بالمبدئية (أو الأخلاقية) على منهج الممارسة السياسية المعتمد من قبل الأفراد أو الهيئات وليس محاكمة هاته الهيئات أو هؤلاء الأفراد فقناعتي ألا أقف عند الأفراد أو التنظيمات. 1-خيار السعي من أجل المبدإ وإهمال المصلحة : من الواضح أن هذا الطرح مثالي غير واقعي ينحو بحامله نحو السذاجة ويعبر عن جهل عميق بطبيعة السياسة والقواعد التي تحكمها وهو طرح نظري يلائم أكثر ربما عملية التنظير السياسي ويتوافق وحدود مهمة المُنظِّر التي تنحصر عند نقطتين: 1- التشبث بالمبدإ. 2-إقناع الناس بإمكانية تحقيقه.. لأنه يفكر ويتحرك عموما في عالم التجريد ولا تعترضه إكراهات الواقع وأصلا المُنظِّر ليس مضطرا لمناقشة احتمال التنازل أو التفاوض على مبادئه.. فإذا انطلقنا من فكرة أن السياسة فن وتقوم على الاجتهاد فإن هذا الطرح يُغفل عوامل الزمان المكان والإمكان.. وهي العوامل المحددة لطبيعة وحدود الفتوى (القرار أو الرأي) السياسية المعتمدة. 2-الخياران (ب وت)/ وجهان لمعنى (أو مقصد) واحد تقريبا. 1-نسعي من أجل المصلحة ونهمل المبدأ: هذا الطرح يمثل قمة الانتهازية ويجسد الوجه القبيح للسياسة (وللأسف هي الصورة الشائعة لدى الناس) واشتهرت باسم المكيافيلية ويقوم هذا الطرح (الفلسفي في أصله) على نظرية أن الغاية تبرر الوسيلة .. والغريب أن هذه الأطروحة يعشقها الظَّلمة من الحكام وتمثل سرا من أسرار استمرار الاستبداد السياسي وتغوله!. 2- نسعى من أجل المصلحة ولا نغفل المبدأ: هذا يمثل النسخة المُطورة (المُحسنة) ل المكيافيلية وجاءت محاولة تحسينها تحت ضغط النقد الكبير للعمل السياسي الذي عرفه الفكر الغربي وتحول اسمها إلى نظرية الأيدي القذرة والتي ملخصها أن السياسي يحتاج اقتراف الشر من أجل خدمة الخير .. والحقيقة أن فشل الميكيافيلية بنسختيها الأصلية والمحسنة كبير في التوفيق بين المبادئ والمصالح.. ويمكن توضيح ذلك اعتمادا على الإشارات الآتية: 1-الشرور والمظالم الكبيرة التي ارتكبت باسم الميكيافيلية . 2- صلاحيات الحاكم اللامحدودة وخاصة ميزة تقدير وتعريف الشر والخير. 3- عدم التمييز بين مصلحة الدولة ومصلحة الحاكم. 4- النظرة العنصرية والدونية للآخر المختلف ( تحيزهم للفرد الغربي مثل تبرير القصف النووي للمدن اليابانية أو تبريرهم لقتل وتشريد الشعب العراقي..الخ). 5-المس بإنسانية العالم واستقرار البشر بالحرص على بناء علاقاته على القوة و قانون الغاب. 6-تحريف التاريخ وشغل الناس بأخطاء المظلوم بدلا عن خطايا الظالم ويشير لهذا المعنى تصريح أحد الفلاسفة اليهود الأمريكيين معلقا عن الغزو الأميركي للعراق: .. إنها حرب غير عادلة ولكن يجب الانتصار فيها.. ! وهو المعنى ذاته الذي قاله أحد زعماء التنور في بلادنا: .. إنه عمل مشروع وإن كان غير شرعي..! . 3- خيار نسعى من أجل المبدإ ونحقق المصلحة : /أعتقد أن هذا الاحتمال هو الأقرب لقيمنا وثقافتنا من جهة والأقرب إلى واقع وطبيعة البشر من جهة ثانية فهو مزيج رائع بين مثالية المبادئ وواقعية المصالح وهذه التوليفة لا يجسدها إلا ديننا والذي أرى أنه قدمها على صور ثلاث: 1-كلف البشر بمهمة عمارة الأرض. 2-وضع لذلك مجموعة قيم على شكل قواعد وتوجيهات ترشد هم. 3-رَسَّم سنة التدافع كمنهج سعي ضامن لعدم اختلال النظام على الأرض: ﴿ولَوْلا دِفاعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهم بِبَعْض لَفَسَدَتِ الأرْضُ..﴾ سورة البقرة الآية رقم 251. 4- الجمع بين السياسة والأخلاق ممكن /مما تفرد به الدين الحق طرحه لإمكانية الجمع بين المبدإ والمصلحة وجسدها عليه الصلاة والسلام في سيرته أثناء سعيه لإقامة مجتمع الحق والعدل (مثلا محطة صلح الحديبية نموذج فارق..) مؤكدا على أن التدافع (الذي يمكن أن نحاجج به كل متردد علم وعزف..) هو الناموس الضابط لتعايش البشر فيما بينهم ويمكن تعريفه ب: ذب الناس عن مصالحهم ومعتقداتهم دون أن ينتظروا معجزة إلهية تنصر أحدهم ليقينه أنه على الحق وفقط.. .. فالإمكانية والفضل يعود إلى مجموع القواعد والأسس التي تميز وتضبط قانون الأخلاق عندنا والتي منها أنه: 1-مزيج بين المثالية والواقعية مثالي في مصدره الإلهي في التقعيد والتنظير وواقعي في تطبيقه وأخذه بالاعتبار لطبيعة البشر وتباين أهدافهم وحتى مصالحهم. 2-قانون عام في اطراده لا يقبل الازدواجية (.. لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّد سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا..) شطر من حديث البخاري- في تطبيقه ولا التطفيف في أحكامه. 3-مرن لم يَجْمُد عند مثالية حالمة غافلة عن قسوة وإكراهات الواقع فسن مبدإ الترجيح وقبل فكرة أخف الضررين.. الخ متى تزاحمت المبادئ أو تضاربت المصالح. 4-إنساني يضمن مصالح الناس في غاياته ومقاصده بعيدا عن الانتهازية أو النفعية المتوحشة للأفراد والعصب على حساب مصالح الجماعة أو الأمة. 5-صارم في موقفه من احترام العقود والمواثيق. 5-الممارس للسياسة: بخلاف المنظر نجد أن الممارس للسياسة (وهو المقصود الأساسي) دوره أصعب ومساره أشق فهو يبدأ حيث يتوقف المُنظِّر ويحمل العبء الأكبر بسعيه لتحقيق ما أمكن من المبادئ والقيم النظرية في واقع الناس ويحتاج في ذلك أن يكون: 1-متسلحا بخلفية فكرية صلبة. 2-مدركا لطبيعة الميدان الذي يتحرك فيه أومن خلاله. 3-واعيا بعوامل القوة والتأثير وساعيا لكسبها. 4-آخذا بالاعتبار دور الزمن في التغيير. ومن هذا المنظور الواقعي يتعين التمييز بين التنظير السياسي والممارسة السياسية فإذا كان التنظير يتوقف عند رسم وبناء الحلم في قوالب نظرية مجردة لا مجال للتنازل عنها أو التفاوض حولها.. فإن وظيفة الممارِس السياسي هي تحقيق ما يمكن تحقيقه من المبادئ والقيم في واقع الناس ضمن معادلات الزمان والمكان والإمكان وهو فن لا حدود للإبداع والعبقرية فيه. ولذلك يمكن القول إن التنظير أيسر من الممارسة والمعارضة أيسر من قيادة الدول والشعوب والسياسي الذي نقصده هو الذي يفلح في التوفيق بين المبادئ والمصالح فلا يفرط في أي منهما فيكون بذلك مبدئيا وبراغماتيا في آن واحد.. وتزداد مهمته صعوبة إن كان رجلا رساليا فبالإضافة لما ذكرنا تواجه سفينته صعوبات أربعة: 1-واقع سياسي قاتم مع طول المدة تحول الاستبداد صفة ملازمة وثابتة فيه. 2-محيط دولي وإقليمي فاعل ومعادي لكل إصلاح. 3-طبقة سياسية متجاهلة لمصالح الأمة استمرأت الوضع القائم. 4-معسكر مهلهل ومتفرق وفاقد للحس الاستراتيجي الواعي. كيف يحقق الممارس الرسالي أهدافه؟ وكيف يتجاوز العقبات التي تواجهه في مساره؟.. ذاك ما نحاول الإجابة عنه في الجزء الثاني بإذن الله وتوفيقه. ..يُتبع.. ***** القمة العربية في الجزائر وجس النبض الدولي أ. د. محمد عبد النور أهم ما يهم حاليا بمناسبة القمة العربية الموقع والتوجه التي تخطه الدبلوماسية الجزائرية لنفسها بحيث تكمن أهمية القمة في جس نبض الجوار العربي والأطراف الدولية نحو الخيارات الدبلوماسية للجزائر فالواضح أن القمة ثبتّت وضعا حاصلا في علاقاتها ببقية العرب والحاصل أن خصوصية القمة تكمن في كونها تفاعلا صامتا مع أهم الأطراف الدولية ذات الدور في المنطقة وأعني بها أولا الولاياتالمتحدة ثم فرنساوإيران فقد كان الموقف الجزائري الأميل إلى روسيا بحكم الواقع والتاريخ والأميل إلى إيران -من فرنسا- بحكم الموقف من التطبيع. حيث الرهان كلّه يكمن في مدى تمكن الدبلوماسية الجزائرية من أن تكون طريقا ثالثا ينأى بنفسه عن التقاطب كما هي فاعلة تركيا إلى غاية اللحظة خاصة ما تعلق بالحرب الجارية في أوكرانيا. فرغم أن الوضع التاريخي والواقع يجعلان تركيا في السلة الغربية إلا أن الموقف السياسي الفاعل جعل من تركيا تقف بين بين إلى حد تمكنها من أن تصير وسيطا بين أطراف الحرب الجارية ومع اختلافات كثيرة أهمها وهن الموقف الجزائري مقارنة بالقوة الاقتصادية والفاعلية السياسية على المستوى الداخلي والخارجي لتركيا إلا أنها الجزائر الأقرب إلى تركيا من حيث تشابه المواقف وهذا يجعل من الموقف التركي بالنسبة للجزائر نموذجا يحتذى إضافة للارتباط العضوي بين البلدين من الناحية التاريخية ومن ناحية العلاقات التي توطدت أكثر بعد صعود الحكومة الحالية في الجزائر أقول هذا وأتلمّس مدى خطورة الموقف الدبلوماسي الجزائري إذا ما قرّر الميل ميلة واحدة ونهائية إلى روسيا دوليا وإلى إيران إقليميا. فإن ابتدأنا بإيران توجسنا من أن ما يحصل اليوم من تحول شبه ملموس من الخروج عن الارتهان للموقف الفرنسي حيث الرموز التي حملتها العملة الورقية المستحدثة تؤكد وجود جناح يسعى للتحرر ولو رمزيا من هيمنة الاستدمار القديم إلا أن الخطر الأكبر يكمن في محاولة الخروج من هيمنة والدخول من هيمنة أسوأ منها وهو السقوط بين يدي حكم الملالي وأيديولوجيا الولي الفقيه التي لم تخلف إلا الدمار والفشل في العواصم التي تحكمها لهذا فلا يجب الفرح كثيرا من الخروج من الهيمنة الفرنسية بسلاسة ويسر وحتى ربما بدعاية ورعاية فرنسية لأن من مصلحة فرنسا أن يكون بديلها هو العبث الإيراني المتواصل والمتمدد في المنطقة ولهذا شواهد أهمها السعي لإعادة نظام بشار إلى الجامعة العربية في قمة الجزائر والمتداول أن أمريكا هي التي منعت حضوره فضلا عن ذلك حديث سفير طهران السابق على إحدى قنوات المقاومة بنبرة مقيم عام في الجزائر!. كما أن الاقتراب أكثر من روسيا يرهن كثيرا المصلحة الدبلوماسية للجزائر من حيث ميل التوقعات إلى أن الزعيم الروسي سيكون الخاسر الأكبر من إعلانه الحرب رغم أن الاستفزازات الغربية والأمريكية على وجه الخصوص -التي كانت استمرارا خفيا للحرب الباردة منذ صعود بوتين أول مرة إلى سدة الحكم منذ أكثر من عقدين- هي التي دفعته بل وأرغمته على الدخول في الحرب مع تنبؤات بأنه سيلقى مصير صَدام نفسه. وإن الخروج من عنق الزجاجة الدبلوماسي يقتضي موقفا أشبه بحمل الماء أساسه البحث عن امتداد استراتيجي متبادل حيث أكثر الحدود المجاورة شبه مغلقة أو مضطربة باستثناء تونس والأقرب حاليا هو التمسك بالجانب التركي ظرفيا.. وأهم ما يمكن من ذلك هو التخلي عن المفهوم الضيق للوطنية الذي أصبح محصورا في مواقف تاريخية قديمة اتخذت في مراحل وظروف مختلفة تمام الاختلاف أصبح التمسك بها مضرة أكثر من منفعة وإدراك أن البقاء الدبلوماسي اليوم داخليا وخارجيا مرهون بمدى راهنية خضوع المواقف السياسية إلى الأوضاع الحالية وما تفرضه من كونية وتشابك.. فضلا عن البحث عن التموقع في ظل ظروف دولية تختمر تغييرات جذرية على المديين المتوسط والبعيد.