وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هذه تفاصيل حوار أبي سفيان وهرقل.. سمع هرقل أن هناك نبيًّا ظهر في بلاد العرب فأمر هرقل جنوده أن يأتوا ببعض العرب لكي يسألهم عن هذا النبي الذي ظهر في بلادهم. واستطاع الجنود الإمساك ببعض التجار الذين كانوا يتاجرون في غزة بفلسطين وكان هرقل في بيت المقدس في ذلك الوقت وهو يريد أن يستوثق من أمر الرسول وكان من بين هؤلاء التجار أبو سفيان بن حرب زعيم قريش. وهذا الأمر حدث بعد صلح الحديبية مباشرة فقد سافر أبو سفيان لغزة للتجارة وأمسكه بعض الجنود وأخذوه إلى هرقل في بيت المقدس والتوقيت عجيب من كل النواحي فكأن الله أرسل أبا سفيان الذي كان كافرًا في ذلك الوقت ليقيم الحجة على هرقل في هذا اللقاء العجيب. ورد في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما نقلاً عن أبي سفيان بعد إسلامه أن هرقل سأل التجار أيكم أقرب نسبًا لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبًا إليه . فقال هرقل: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره . أي جعل أبا سفيان واقفًا ووراءه مجموعة من أصحابه ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائلٌ هذا الرجل -يعني أبا سفيان- فإن كذبني فكذبوه . هرقل يريد أن يعرف بجدية كل شيء عن هذا النبي فسأل أقرب الناس إليه نسبًا ليكون على معرفة تامة به وفي الوقت نفسه جعل وراء أبي سفيان مجموعة التجار الآخرين كحكّام على صدقه. وتحت تأثير إرهاب هرقل وبطشه أبو سفيان سوف يخاف أن يكذب ومَن وراءه سوف يخافون أن يكذبوا. ولكن أقول لكم: إن عامل الكذب هذا لم يكن واردًا في القصة فالعرب حتى في أيام الجاهلية كانت تستنكر صفة الكذب هذه وتعتبرها نوعًا من الضعف غير المقبول حتى إن أبا سفيان كان يقول تعليقًا على كلمة هرقل هذه: فوالله لولا الحياء من أن يأثر أصحابي عني الكذب لكذبته حين سألني عنه ولكني استحييت أن يأثروا الكذب عني فصدقته . فهو في هذه اللحظة -سبحان الله- مع أنه يكره الرسول كراهية شديدة إلا أنه لا يستطيع أن يكذب على محمد لا يحب أن يشوّه صورته بالكذب لدرجة أنه في رواية كان يقول: ولكني كنت امرأً أتكرَّم عن الكذب . وبدأ استجواب هرقل لأبي سفيان أمام الجميع من العرب والرومان وفي حضور عِلية القوم من الأمراء والوزراء والعلماء من الرومان. وفي هذا الاستجواب سوف نرى أن هرقل سيسأله أسئلة يحاول بها أن يتيقن من أمر هذه النبوة التي ظهرت في بلاد العرب هل هي نبوة حقيقية أم كذب؟ وهذه الأسئلة عبارة عن استنباطات عقلية وهذه الأسئلة بناء على معلومات عن الأنبياء بصفة عامة وعن هذا النبي بصفة خاصة كما جاء في التوراة والإنجيل. وهذا الحوار الذي دار بين هرقل زعيم أكبر دولة في العالم في ذلك الوقت وأبي سفيان زعيم قريش نحن نحسبه من أعجب الحوارات في التاريخ وهو عجيب من أكثر من وجه لاهتمام زعيم أكبر دولة في العالم بأمر رجل يظهر في صحراء العرب أو من حيث ذكاء الأسئلة ودقتها أو من حيث ردود أبي سفيان المشرك -آنذاك- الذي كان يكره محمدًا كراهية شديدة أو من حيث تعليق هرقل على كلام أبي سفيان في آخر كلامه أو من حيث ردّ فعل هرقل بعدما سمع كلمات أبي سفيان. إنه حوار عجيب بكل المقاييس وقد بدأ الحوار بسؤال: *كيف نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب. قال هرقل: فهل قال هذا القول من قبلكم أحد قَطُّ قبله؟ قال أبو سفيان: لا لم يدَّعِ أحدٌ في تاريخ العرب النبوة. فقال هرقل: هل كان من آبائه من مَلِك؟ فقال أبو سفيان: لا. قال هرقل: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. قال هرقل: أيزيدون أم ينقصون؟ قال أبو سفيان: بل يزيدون. قال هرقل: فهل يرتد أحد منهم سَخْطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال أبو سفيان: لا لا يرتد منهم أحد. قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: لا. قال هرقل: فهل يغدر؟ قال أبو سفيان: لا. ثم قال: ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. هذا كلام أبي سفيان فهو أراد أن يقول أي شيء سلبي على الرسول فكل الإجابات ترفعُ من شأن الرسول يقول أبو سفيان: ولم تُمْكِنِّي كلمةٌ أُدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة. أي حاولتُ قدر ما أستطيع أن أطعن في الرسول بأي شيء فلم أستطع إلا بهذه الكلمة وهرقل لم يعلِّق على هذه الكلمة وكأنه لم يسمعها. ثم قال هرقل: فهل قاتلتموه؟ قال أبو سفيان: نعم. فقال هرقل: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال أبو سفيان: الحرب بيننا وبينه سجال. قال هرقل: بماذا يأمركم؟ قال أبو سفيان: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. انتهى الاستجواب الطويل من هرقل وبدأ هرقل يحلل كل كلمة سمعها وكل معلومة حصل عليها حتى يخرج باستنتاج. وأعلن ذلك الاستنتاج ترجمان هرقل قال هرقل: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها . وسوف يبدأ هرقل يأخذ كل كلمة وكل نقطة يثبت بها لأبي سفيان وللجميع ولنفسه قبلهم أن هذا رسول من عند الله. ثم قال: سألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا قلتُ: لو كان قال أحد هذا القول قبله لقلت رجل يَأْتَسِي بقول قيلَ قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا فلو كان من آبائه من مَلِك قلتُ: رجلٌ يطلب مُلك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا فَقَدْ عَرَفْتُ أنه لم يكن ليذَرَ الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون. وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد منهم سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا. وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فهذه هي تحليلات هرقل حتى خرج إلينا في نهاية الأمر بنتيجة خطيرة فعلاً يقول بمنتهى الصراحة: فإن كان ما تقوله حق فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلمُ أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلصُ إليه لتجشَّمْتُ لقاءَهُ ولو كنت عنده لغسلتُ عن قَدَمِهِ. إنها كلمات خطيرة وعجيبة من زعيم الإمبراطورية الرومانية فقد أيقن هرقل من أول وهلة أن هذا الرجل رسول حقًّا وأن ملكه سيتسع حتى يأخذ بلاد الشام وأنه يجب الاتباع له والانصياع الكامل لأمره بل الرضوخ لقوله تمامًا والتواضع الشديد لدرجة أن هرقل يتمنى أن لو غسل قدمي رسول الله . ودعا هرقل بكتاب الرسول والمرسَل مع دِحْية بن خليفة الكلبي وقرأ هذا الكتاب في وجود أبي سفيان ونحن لا نعلم إن كانت هذه أول مرة يقرأ هرقل الرسالة أم قرأها قبل ذلك وقد يكون هرقل قرأ رسالة النبي قبل ذلك ثم أراد أن يَعْرف أكثر عن هذا النبي فبحث عمن يَعْرفه جيدًا ليسأله عنه وعن سيرته وأخلاقه كما رأينا. ولعله أراد أيضًا أن يُعَرِّف أساقفة الرومان وقادتها بهذا النبي الذي يريد أن يؤمن به هو شخصيًّا وقد رأينا أسئلته لأبي سفيان وتحليلاته الشخصية لأجوبة أبي سفيان عنها تلك التحليلات التي تنطق بأن هذا الرجل هو النبي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. المهم أنه قرأ الكتاب أمام أبي سفيان وأمام العرب وأمام الرومان الموجودين وبدأ يقرأ الكلمات العجيبة وفيها دعوة صريحة لدخول الإسلام. وبعد انتهاء القراءة من الرسالة سمع أصواتًا عالية وكثر اللغط وارتفعت الأصوات في كل مكان وضجت القاعة بالاعتراض على كل كلمة من كلمات هذا الكتاب النبوي لأن زعماء النصارى وأمراء الجيوش وعلماء الدين الموجودين رفضوا تمامًا هذه الدعوة الكريمة من رسول الله . ولما حدث ذلك أمر هرقل بأبي سفيان ومن معه من تجار أن يخرجوا من القاعة ورأى أبو سفيان رهبة هرقل عندما سمع قصة المصطفى ولم يؤمن برسالته بعدُ وهو يرى الرسول وهو يكتب الرسائل إلى زعماء الدول العالمية الكبرى في ذلك الوقت فقد ترك هذا الموقف أثرًا نفسيًّا هائلاً عند أبي سفيان حتى إنه ضرب يدًا بالأخرى وقال: لقد أَمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة . أي عَظُم أمر ابن أبي كبشة يقصد الرسول ثم قال: إنه ليخافُهُ مَلِكُ بني الأصفر . هرقل زعيم الرومان لدرجة أن هذا الحدث سيحفر تمامًا في ذهن أبي سفيان وسيكون له أبلغ الأثر في قرارات أبي سفيان وسوف نرى أبا سفيان يُسلِم بعد ذلك في فتح مكة.