بداية، نجد لزاما علينا أن نوجّه الشكر لجهتين رئيسيتين، الأولى سلاح المقاومة والثانية الثورة الشعبية المصرية، فالفضل يعود لهما في تحقيق هذا العرس الكبير الذي احتفلنا فيه بفكّ أسر أكثر من ألف مجاهد فلسطيني وفلسطينية كانوا جميعا مشاريع شهادة دفاعا عن أرضهم وكرامتهم وحقوق شعبهم وأمّتهم المشروعة في التحرير واسترداد الحقوق المغتصبة· صفقة تبادل الأسرى التي تمّت فجر أمس، هي أحد أبرز الانتصارات الفلسطينية على حكومة إسرائيلية عنصرية متغطرسة، وتمرّغ أنف رئيسها بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه إيهود باراك في التراب· نقول ذلك لأن هذه الصفقة كسرت كلّ المحرّمات الإسرائيلية، كسرت محرَّم عدم التفاوض مع (الإرهابيين) والرّضوخ لشروطهم التي طالما تباهى بها المسؤولون الإسرائيليون، وكسرت محرّم عدم الإفراج عن الملطّخة أيديهم بدماء اليهود، وها هي حكومة نتنياهو تفرج مكرهة عن مناضلين محكومين أكثر من عشرة أحكام بالسجن المؤبّد· هذه التنازلات الإسرائيلية الكبيرة ما كان لها أن تحدث لولا المتغيّرات المصيرية والتاريخية التي تجتاح المنطقة العربية حاليا، وتتمثّل في الثورات الشبابية العربية ضد أنظمة ديكتاتورية فاسدة، متعفّنة، رضخت وعلى مدى أربعين عاما تقريبا للإملاءات الإسرائيلية والإمريكية، واعتمدت الاستجداء أسلوبا للوصول إلى سلام مغشوش تمثّل في مبادرة لم تحظ إلاّ بالاحتقار والإهمال· مصر تغيّرت نحو الأفضل وبعد سنوات من القهر والفساد والإذلال ها هي تستعيد سيادتها ودورها، تستعيد كرامتها وتبثّ الرّعب في أوصال المسؤولين الإسرائيليين، كبارا كانوا أم صغارا، عسكريين كانوا أو مدنيين، فمتى كان رؤساء الوزراء الإسرائيليون يعتذرون لدول عربية على قتلهم جنودا أو اجتياحهم حدودا؟ نتنياهو يتنازل مرغما ويقبل بصفقة تبادل أسرى رفضها إيهود أولمرت من قبله لأنه يدرك جيّدا أن (تسونامي) الثورة المصرية غيّر معادلات القوّة والضعف في المنطقة، بما في ذلك الإطاحة بنظام حكم كان يفرش له السجّاد الأحمر في شرم الشيخ ويخرّ ساجدا أمام إملاءاته· فعندما يقتحم الثوّار المصريون السفارة الإسرائيلية في القاهرة ويحرقون علمها ويبعثرون محتوياتها ويستنجد نتنياهو بالسلطات المصرية مرعوبا لحماية ستّة من حرّاسها محاصرين في دورها العلوي ولا يجد من يجيبه أو يأخذ مكالمته فيهرع إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما مستغيثا فهذا يعني أن مرحلة الخنوع والإذلال قد انتهت، وأن مرحلة تاريخية مشرّفة قد بدأت· ' ' ' لا نقيّم هذه الصفقة من منظور الأرقام ودلالاتها، ولا نتّفق مع الذين يحاولون تقليص أهمّية الإنسان العربي مقابل نظيره الإسرائيلي والقول إن شاليط هذا يساوي ألف أسير، وإنما ننظر إليها من المنظور السياسي والمتغيّرات على الأرض، فالأسرى العرب لا يقلّون أهمّية عن أيّ جندي إسرائيلي لأن هؤلاء كسروا حاجز الخوف واختاروا الشهادة رغم معرفتهم بالخلل الفادح في موازين القوى والانحياز الغربي للظلم والعدوان والعجز العربي، وقرّروا حمل أرواحهم على أكفّهم وممارسة حقّ المقاومة الذي مارسته كلّ الشعوب الأخرى من قبلهم·· هؤلاء الذين سجّلوا المثل الأعلى في الشجاعة لا يُقدَّرون بثمن· ندرك جيّدا أن هناك (منغّصات) لا يمكن تجاهُلها، وندرك أيضا أن هناك تمنّيات لم تتحقّق ونعترف بأننا وكلّ أبناء الأمّة كنّا نأمل أن نرى قادة المقاومة مثل مروان وعبد اللّه البرغوثي وأحمد سعدات أحرارا بين المفرج عنهم،. ونسلّم أيضا بأن هذه الصفقة تظلّ ناقصة لأن هناك أسيرات حرائر ما زلن خلف القضبان، لكننا ندرك أيضا أن المفاوض مهما بلغت مهارته وصموده لا يمكن أن يحصل على كلّ ما يريده في مثل هذه الحالات، خاصّة إذا كان هناك وسطاء أشقّاء يضغطون ولأسبابهم السياسية والأمنية لإغلاق هذا الملف المزمن· لا نضرب بالرمل ولا نقرأ الغيب لكننا نستطيع أن نستنتج، وفي ظلّ التهديدات الأمريكيةلإيران وبعد فبركة محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن ومخطّط تفجير سفارتي إسرائيل والسعودية في بوينس أيرس فإن العدّ التنازلي لهجوم إسرائيلي (عربي) أمريكي على إيران قد يكون بدأ، وأن نتنياهو يريد إنقاذ شاليط وحياته حتى تكون يداه غير مغلولتين، في حال صدر القرار بالهجوم· من حقّ ألف أسرة وأكثر أن تفرح اليوم بعودة أسراها، فليس هناك أجمل من أن تعانق أمّ ابنا لم تره منذ سنوات، أو ابن يعانق أبا، ابنٌ ولد وحبا ثمّ مشى وراهق ثمّ أصبح شابّا يافعا دون أن يجلس على حجره أو يحظى بحنانه وقبلاته ودفء عواطفه· ' ' ' نشعر بالتعاطف كلّه مع خمسة آلاف أسير ما زالوا خلف القضبان في زنازين انفرادية ويضرب معظمهم عن الطعام هذه الأيّام احتجاجا على الظروف القاسية التي يعيشونها في ظلّ أحكام جائرة، وعلى أيدي سجّانين يمثّلون أبشع احتلال في تاريخ البشرية· لعلّ هؤلاء يصلُّون ليل نهار لأسر (خمسة شاليطات) جدد حتى يبصروا نور الحرّية مجدّدا ويعودوا إلى أهاليهم وذويهم بعد أن تعثّرت الجهود الرّامية إلى الوصول إلى اتّفاق سلام يكون من ضمن شروطه تبييض السجون والإفراج عن جميع الأسرى· لا ننسى في هذه العجالة عدّة أمور لابد من التوقّف عندها، وأوّلها الإعجاز الكبير الذي حقّقته لجان المقاومة الشعبية في الحفاظ على سرّية مكان اعتقال شاليط طوال السنوات الخمس الماضية من أسره، واعتراف رئيس جهاز المخابرات الداخلية الإسرائيلية (شين بيت) باستحالة الإفراج عنه بالوسائل العسكرية· ولا ننسى أيضا أولئك الذين خطّطوا وهندسوا عملية الهجوم غير المسبوقة على وحدة شاليط العسكرية في كرم أبي سالم، بحفر نفق تحت الأرض والوصول إليها مثل (الجنّ) وعلى رأس هؤلاء الشهيدان جمال أبو سمهدانة وزميله النيرب وآخرون· لحظة فرح تاريخية تستحقّ الاحتفال وتبادل التهاني وذرف دموع الفرح·· وألف مبروك للمحرّرين وأسرهم· * لا نقيّم هذه الصفقة من منظور الأرقام ودلالاتها، ولا نتّفق مع الذين يحاولون تقليص أهمّية الإنسان العربي مقابل نظيره الإسرائيلي والقول إن شاليط هذا يساوي ألف أسير، وإنما ننظر إليها من المنظور السياسي والمتغيّرات على الأرض، فالأسرى العرب لا يقلّون أهمّية عن أيّ جندي إسرائيلي لأن هؤلاء كسروا حاجز الخوف واختاروا الشهادة رغم معرفتهم بالخلل الفادح في موازين القوى والانحياز الغربي للظلم والعدوان والعجز العربي، وقرّروا حمل أرواحهم على أكفّهم وممارسة حقّ المقاومة الذي مارسته كلّ الشعوب الأخرى من قبلهم·· هؤلاء الذين سجّلوا المثل الأعلى في الشجاعة لا يُقدَّرون بثمن· * نشعر بالتعاطف كلّه مع خمسة آلاف أسير ما زالوا خلف القضبان في زنازين انفرادية، ويضرب معظمهم عن الطعام هذه الأيّام احتجاجا على الظروف القاسية التي يعيشونها في ظلّ أحكام جائرة، وعلى أيدي سجّانين يمثّلون أبشع احتلال في تاريخ البشرية· لعلّ هؤلاء يصلُّون ليل نهار لأسر (خمسة شاليطات) جدد حتى يبصروا نور الحرّية مجدّدا ويعودوا إلى أهاليهم وذويهم بعد أن تعثّرت الجهود الرّامية إلى الوصول إلى اتّفاق سلام يكون من ضمن شروطه تبييض السجون والإفراج عن جميع الأسرى عبد الباري عطوان· القدس العربي