تعيش المدرسة الجزائرية في هذه الأيام حراكا خطيرا تظهر بوادره من خلال القرارات الارتجالية التي اتخذتها الدولة من تشريع للامازيغية، وفرضها على الدراسين بلهجة لم ترتق إلى لغة بكامل أبجدياتها مثلما نص عليه الدستور. الأمر لم يصل إلى هذا الحد فحسب بل وصل استهتار السلطة بخوض معركة خاسرة لم ولن تعرف عواقبها مع نقابات التربية مع علمها بان عدم إيجاد حلول لهم سيزيد الموقف سوء خاصة وان معظم تلاميذ المدارس لم يكتمل برنامجهم الدراسي ولن يكتمل، في ظل الصمت الرهيب الذي تتخبط فيه وزيرة التربية الوطنية و التي تعدت كل الحدود بأن وجّهت قرارات العزل للأساتذة رغم أنهم افنوا أعمارهم في بناء إطارات الدولة الجزائرية. أساتذة التعليم وقفوا ضد سياسة عرجاء انتهجتها الدولة منذ أكثر من خمسة وعشرين سنة، ابتداء من إقالة وزير التربية الأسبق "علي بن محمد" على خلفية تسريبات لأسئلة البكالوريا، والتي حسب الوقائع فإنها كانت مفتعلة، لأن الوزير في ذلك الوقت اقترح أن تكون اللغة الانجليزية مكان اللغة الفرنسية، هذه الحادثة تكرّرت في عهد بن غبريط بشكل اكبر وعلى المباشر، حيث أن أسئلة امتحانات البكالوريا تسربت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن هذا الأمر لم يكن ليحرك ساكنا في قرارات السلطة والتي لم تستطع إزاحتها من المشهد التربوي رغم فظاعة المشهد. من جانب آخر، كان مسار المسخ التربوي واضحا، فقد كانت إصلاحات "بن زاغو" واحدة من الأسس التي بنيت عليها المناهج و التي لم تجد طريقا للتلميذ الذي اختلطت عليه مفاهيم البناء الفكري واللغوي، رغم ان الشيخ عبد الحميد بن باديس كان قد حرض رجال التربية في عصره على ضرورة إعادة النظر في البرامج التربوية، أين تساءل مستنكرًا: (فهل نعدّ منهجًا ينبت به أبناؤنا نباتًا حسنًا فيكون رجاؤنا عظيمًا، أم نستمر على ما نحن عليه فيضيع الرجاء؟ ذلك ما نُسأل عنه يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم". المشاريع الغربية الموجهة ضد الهوية الجزائرية من تجريد للغة وتمييع للمناهج وانتزاع لمبادئ الدين الإسلامي وزرع الفتنة بين أبناء الوطن الواحد لم تجد لها طريقا، لان مرجعية الشيخ بن باديس ستنتصر مادامت الأمة الجزائرية لا زالت تحافظ على مقوماتها الفكرية المستمدة من الكتاب والسنة وشيوخ مدارس جمعية العلماء المسلمين من أمثال الشيخ عبد الحميد بن باديس، الذي انتصر للأمة الجزائرية حينما قال " إننا نرى أن الأمة الجزائرية موجودة ومتكونة على مثال ما تكونت به سائر أمم الأرض، وهى لا تزال حية ولم تزل، ولهذه الأمة تاريخها اللامع ووحدتها الدينية واللغوية، ولها ثقافتها وتقاليدها الحسنة والقبيحة كمثل سائر أمم الدنيا، وهذه الأمة الجزائرية ليست هى فرنسا، ولا تريد أن تصبح هى فرنسا، ومن المستحيل أن تصبح هى فرنسا، حتى ولو جنّسوها". إن المتتبع لتاريخ التعليم خلال المرحلة الاستعمارية لم يكن ليصل إلى هذا الحد، فقد كان الشيخ بن باديس ومدراس جمعية العلماء المسلمين تواجه اكبر عملية غسيل للمجتمع ومحاولة تهجينه وتحويره من اللغة العربية إلى الفرنسية ومن مناهج الدين الإسلامي إلى مناهج المسيحية، رغم ذلك فجمعية العلماء المسلمين لم تكن لقمة سائغة للفرنسيين، فقد تحمّل المعلمون من أبناء الجمعية مسؤوليتهم الكاملة في تعليم الأجيال، وهذا ما نبه إليه الشيخ الإبراهيمي حينما قال "المسؤولية الخطيرة يتحملها المعلمون، فهم مسؤولون على النمو الفكري والتهذيب النفسي للناشئة وهم مسؤولون من جهة أخرى عما يصيب أبناء الأمة من زيغ فكري وعقائدي، فموقعهم في المجتمع خطير لا يجوز فيه التقصير أو الخطأ، ويشبه وظيفة المعلم بوظيفة الطبيب بل إن مسؤولية المعلم أشد وأقوى، لأن الخطأ الذي قد يقع فيه الطبيب لا يتعدى فردا أو فردين، أما الخطأ الذي يقع فيه المعلم فإن أثره يتعدى جيلا بأكمله". إن الجيل الذي ذكره الشيخ البشير الإبراهيمي كان يعيش تحت طائلة ظروف قاسية ومستعمر غاشم، و رغم ذلك استطاع أن يكون القاعدة الأساسية في بناء هذا الجيل، الذي عكف على إيصال الرسالة السامية طيلة أكثر من 30 سنة، لكن المناهج المفروضة عليه صعّبت من مهمته نظرا لما تحمله من نزع للهوية وتشكيك في اللغة العربية مع إدخال لهجات مفروضة بأجندات معينة. لكن ما يزيد من عمق المشكلة أن هذه الأجيال التي صمدت مدة من الزمن في تكوين أجيال المستقبل دخلت في صدام مع الوزارة التي قررت ان تتخلى عنهم في سبيل الانتصار للتعسف في السلطة رغم ان مطالب المربّين ليست تعجيزية بل هي في صميم العمل التربوي الذي ما يزال يتخبط في مشاكل طال عليها الزمن من الممكن أن تجد حلا سريعا أو أنها ستفنى بفناء أجيال التربية.