بمناسبة أربعينية المجاهد أحمد قايد صالح التي يحييها الجزائريون هذه الأيام وفاء لقائد الأركان، قد تبدو الكلمات والمقالات أقل من أن تفي الرجل حقه. ولكن من الواجب الوطني والواجب اتجاه أبنائنا والأجيال القادمة كمفكرين وككتاب أن نذكّر الشعب ونُعرفه برجاله وخصالهم وخاصة مواقفهم في الأيام والشهور الحرجة التي عاشتها الجزائر ... مواقف يسجلها التاريخ بأحرف من ذهب وستبقى صفحاتها ناصعة في سير العظماء الذين صنعوا ملحمتها!! والإلمام بتفاصيل هذه الملحمة لا تكفيه الكتب ولا المقالات المتعددة ... لذلك سنكتفي من أحدثها و شؤون الساعة فيها حيث التداعيات لازالت نابضة وحية لأن رجلا مثل المجاهد أحمد قايد صالح له مسار طويل وحافل من النضال الوطني. وفي هذا المقال سنستعرض جزءا من أهم ما تحمّله الرجل من مسؤوليات كبرى وخدمات جليلة قدمها للوطن راجين أن يكون هذا فاتحة للبحث وإعادة الذاكرة الوطنية للحياة وقبسا يضيء الطريق. الوقوف ضد العاصفة وفي وجه إنهيار مؤسسات الدولة ... كل المؤشرات والأحداث الدولية تُظهر بجلاء أن منطقتنا مستهدفة بما يعرف في علم السياسة الثورات الملونة. فهناك رغبة جامحة من الدول المهيمنة (رأس حربتها الولاياتالمتحدةالأمريكية) والدول المستدمرة (القوى الكولونيالية السابقة) في استغلال ضعف دول العالم الثالث - لا سيما الطاقوية منها- والعمل على خلق المشاكل فيها بغرض الاستثمار في حالة الاحتقان لإحداث ما يعرف بتغيير الأنظمة أو إعادة تشكيل الخرائط ... وهو ما يعرف ب "الفوضى الخلاّقة بتعبير كوندوليزا رايس سنة 2006. في هذا السياق التاريخي المتفجر والتصادمي قامت قيادة الجيش الوطني الشعبي بإحباط محاولتين خطيرتين دون أن ينتبه الكثيرون: أولا في مظاهرات بداية سنة 2011 أو ما يعرف ب "أحداث الزيت والسكر". وثانيها قبل 06 سنوات حين حاول بعض رموز التيار الفرونكوشيوعي استدراج الجيش بنداءات التدخل لعزل الرئيس بحجة ترشحه لعهدة انتخابية رابعة ... ولكي لا ننسى فإن هذا التيار كان هو المسوق الرئيسي لبوتفليقة في 1999 ومجمل مشاريعه. والعارفون بخبايا وحقائق الأمور فغن هذا النداء كان بمثابة دعوة مبطنة لانقلاب وهو الأمر الذي سيضع الجزائر تحت الضغط الدولي كتحصيل حاصل و حتما كان سيفتح باب التدخلات الخارجية. إن موقف المجاهد "أحمد قايد صالح" وقيادة الجيش، في خضم ما سبق الإشارة إليه، أظهر تحولا كبيرا في عمل الجيش الجزائري والتزامه بالدستور والنأي بالنفس عن جرّه في مستنقع التجاذبات السياسة. هذا الأمر يعتبر زلزالا سياسيا في شكل هادئ. الضربة كانت موجعة لمن اعتادوا على الممارسات السياسة بالضغط كنقيض لمعناها أساسا واستغلال القوة لمصالح خاصة وفرض منطق متناقض وشاذ على الجزائر لإخفاء فشلهم السياسي الذريع المتكرر. وتنويها لأصحاب الذاكرة القاصرة، وما أكثرهم بكل أسف، نذكّر بأنه لم يسلم لا قائد الأركان ولا الجيش آنذاك من الانتقاد لامتناعه عن تجاوز الحالة العادية في الدستور دون داع حقيقي ... خصوصا وأن الشعب لم يظهر أي امتعاض بشكل واضح مثل مظاهرات فيفري 2019 وما بعدها وبالتالي كان الجيش في صف الشعب دون ضوضاء وهذا الموقف كان له ما بعده. موقف قائد الأركان الحاسم في حراك فيفري 2019 جاءت مظاهرات 2019 تحت مسمى "الحراك" الذي روّجه الإعلام في أجواء مشحونة. وكانت تلك المظاهرات في بدايتها قد أخذت شكل الثورة الملونة كما هو حال ثورتي جورجيا وأوكرانيا اللتين تميزتا بتغيير الأنظمة لصالح طرف خارجي يخدمه نظام وظيفي جديد. لقد قدرت قيادة الأركان، بصفتها الحامي للدستور والحامي لمؤسسات الدولة ورموزها، هذا الوضع جيدا واعتبرت أن الجزء الأكبر طبيعي في الحراك بسبب فشل السياسيين والإدارة والاعلام ومختلف النقابات وجمعيات المجتمع وكل الوسائط الاجتماعية ... لقد راجت روائح الفساد الكريهة وأزكمت الأنوف!! وبالعودة الى خطابات قيادة الأركان ظهر أن الجيش كان ينظر بعين الريبة إلى دعوات غريبة لمجلس تأسيسي ومرحلة انتقالية وإسقاط الدستور وكذا مشاركة رجال أعمال في الحراك!! يُضاف إلى ذلك مشاركة أحزاب ومنظمات في الاحتجاجات وهي التي قد ساهمت في الأوقات السابقة في إنتاج الفشل و الفساد الذي تسبب في خروج الجماهير ... وبالتالي ظهر للعيان تلك المحاولات للتحكم في الحراك وركوب غضب الشعب وتوجيهه في اتجاه خاطئ والعمل على استغلال فترة الاضطراب بشكل مشبوه ولأغراض غير التي نادى بها المواطن المتضرر من الفساد ونهب مقدرات البلاد. وفي ظل هذا الوضع الخطير المتسم بفشل الإدارة والسياسيين قدّرت قيادة الجيش بأن ذلك يفرض عليها أن تلعب دور الوساطة بسبب الظروف الاستثنائية ولكون هذه المؤسسة هي الوحيدة المتماسكة. وهو ما تطلبه رهان الحفاظ على كيان الدولة والوحدة الوطنية والدستور كمهام طبيعية للجيش الوطني الشعبي والتي ظهر جليا أنها مهددة بشكل واضح. وبالموازاة محاولة مد يد المساعدة للشعب الجزائري ومرافقته في تحقيق ما يريد حين عبّر المجاهد أحمد قايد صالح، رحمه الله، في قوله "نحن أبناء الشعب قبل لبس هذه الثياب وقبل كل شيء" و في خطاب آخر "الجيش الوطني جيش الشعب". في خضم هذه الأحداث، قام الجيش الوطني الشعبي تحت قيادة الفريق أحمد قايد صالح رحمه الله بعقد اجتماعات ماراطونية في مختلف النواحي وتحرّك أمني دؤوب للحفاظ على الأمن العام و.حماية المتظاهرين كما رُصدت كل امكانيات الجيش وكافة ملحقاته الأمنية وموارده للحفاظ على الدولة و المواطنين في ذلك العهد الخالد بأن لا تراق قطرة دم واحدة ... إن هذه الجهود المخلصة قد أسقطت الاختراقات وكشفت عن المؤامرات التي تستهدف البلاد ... وأول قرار اتخذته قيادة الجيش كان التحرك الفوري لتفعيل المواد الدستورية 07 و08 و102 التي أعقبها استقالة الرئيس بوتفليقة للدخول في مرحلة دستورية عنوانها التحضير لانتخاب رئيس جديد ... وبالتالي يتولى الجيش فضح المؤامرة التي استهدفت الجزائر ويحرر العدالة لاعتقال رؤوس العصابة وتقديمهم للمحاكمة وفقا للقوانين. إن هذا الدور المحوري الذي قام به المجاهد أحمد قايد صالح قد كان له أهميته البالغة في عصمة دماء الجزائريين في سابقة تاريخية نالت إعجاب العالم و إرتياح المواطنين وأيضا توجيههم الوجهة الصحيحة في إطار الحل الدستوري. إلا أن دوائر الشر كانت ولازالت تسعى الى التقليل والنيل من هذا الدور بأشكال مختلفة محاولة بذلك تجاوز صدمتها بفشل ما خططت له لسنوات على ما يبدو ... مخططات صارت مفضوحة مع مرور الأيام حتى تفطن الشعب لها. وبالتوازي مع ذلك سرى الوعي بأن موقف الجيش كان من أهم أسباب النجاح في اعترافات متأخرة. هذا الدور المحوري لقيادة الجيش وملحقاتها الأمنية كان من أهم أسباب ترشيد الهبة الشعبية فكانت بالفعل مرافقة للشعب في مطالبه بإيقاف الفساد ومحاسبة العصابات والسير بخطى ثابتة باتجاه استراتيجي يجنبنا سيناريو جانفي 1992: الانتخاب بدل المرحلة الانتقالية وفخاخها كالمطالبات الغريبة والمشبوهة بتجاوز الأطر القانونية والدستورية. لقد كان لكل ذلك أثر نفسي عميق على المواطن حين أحيا الفريق أحمد قايد صالح الوطنية وأعاد لنوفمبر بريقه بكونه جمع بين ماضيه كضابط في جيش التحرير وسليله الجيش الوطني الشعبي ... معاني سامية ظن الناس في وقت سابق أنها اختفت وتراجعت تحت ضربات المشككين وضربات الفساد الذي استشرى مشوها الوطن والوطنية والانتماء لقيم ثورة نوفمبر ومحاولة ربطهم بكل ما هو سلبي في خطة خبيثة لاستهداف الوعي الجماعي!! الانتصار في المعركة الأخلاقية وميلاد الجيشعب إن المجاهد أحمد قايد صالح لم يقم بصفته القائد الأعلى لأركان الجيش بدور الحامي للجزائر والدستور فقط (كان هذا قد يبدو عاديا بحكم مهامه الدستورية رغم صعوبته) و انما أعاد الحياة لقيم نوفمبر وأعاد اللحمة الوطنية بعد تمزقها بفعل الحرب الأهلية أو العشرية السوداء التي تسبب فيها المغامرون بخروجهم على الدستور. ورغم التهجم على شخصه صباح مساء فإنه لم يسع الى الانتصار لذاته وكان بإمكانه ذلك لو أراد ... لكنه لم يلتفت لنفسه فقد كان يحمل هموم الجزائريين ومصير الوطن. هذا الموقف الذي بدأ يأخذ الانتباه مع مرور الأسابيع كان كافيا ليشعل نار الوطنية التي ظن المعادون لثوره التحرير أنها انتهت تحت القصف النفسي الموجه لإخماد جذوة الروح الوطنية وإضعاف إرادة العيش المشترك عند الجزائريين وتحقير كل ما هو وطني أو يرمز لقيم و بيان نوفمبر العظيم ... فبتوفيق من الله الذي قيّض رجالا لهذا الوطن دوّن التاريخ صفحة مشرقة أخرى رغم كل محاولات الإحباط المتكررة. بعد كل هذه المحطات الخالدة في سيرة الشعب وصحيفة المجاهد "أحمد قايد صالح" تأبى الأقدار إلا أن تفاجئنا بفاجعة وفاة صانع الملحمة صبيحة يوم الاثنين 23 ديسمبر 2019 بعد أن أوصل الجزائر إلى بر الأمان ... وبعد إحدى عشر "11" يوما عن إجراء الانتخابات التي حاولت الإرادات الشريرة جاهدة تعطيلها ... وهكذا كنا شهود عصر على أعظم جنازة شعبية تاريخية ... جنازة عظيمة عظمة المجاهد أحمد قايد صالح رحمه الله ... لقد صنع هذا الرجل صفحة تاريخية مشرقة وكانت جنازته ضربة موجعة للعملاء ولمحاولات التدخل الخارجية التي كانت وراءها دولة معادية للجزائر ماضيا وحاضرا يمقتها عمي صالح وكل الوطنيين مقتا شديدا. أكتب هذه الكلمات لروح القائد العظيم الطاهرة بمناسبة أربعينيته اعترافا وإسهاما ولو بشيء يسير لذكر عمي صالح الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه وشرّف الشعب الجزائري به رغم تواضعه الظاهر وعدم حبه للظهور. إليك عمي صالح ... ابن جيش التحرير الوطني والثورة المباركة والجيش الوطني الشعبي ... أتضرع للمولى بأن يرحمك راجيا من المولى عز وجلّ أن يجزيك عن الجزائر وأبنائها، أجيال المستقبل، خير الجزاء ويتقبلك في الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا. **خليفة عبد الحكيم أستاذ ومهتم بالشؤون الإجتماعية الإقتصادية والسياسية