حديثنا اليوم في هذه المقالة عن أحد علماء الأنثربولوجيا وهو (مليفيل هيلتون-سيمبسون). عالم انجليزي ولد سنة 1881م وتخرّج من كليّة ويلينجتون وإكستر بأكسفورد. انصبّ اهتمامه الأساسي على الشعوب الإفريقية، وبدأ أوّل رحلة ميدانية إلى الصحراء الجزائرية سنة 1903م. أمضى (مليفيل هيلتون) بضع سنوات في جبال الأوراس مع زوجته حيث كان يدرس ثقافة البربر هناك لكن الحرب العالمية الأولى حالت دون استمرار وجوده في الجزائر. أظهر (ملفيل) اهتماما كبيرا بالممارسات الطبية المحلية والنباتات المستخدمة من طرف السكان المحليين خاصة البربر، حيث ترك ملاحظات ورسائل ومنشورات حول الطب التقليدي، ثم فحصها للحصول على معلومات ذات صلة باستخدامات النباتات الطبية. توفي (ملفيل) في مارس من سنة 1938م مخلّفا بعض الكتب المهمّة منها: كتاب (الجزائر العاصمة وخارجها) وكتاب (جراحة الطب العربي: دراسة فن الصحة في الجزائر). يقول الأستاذ الألماني (أكسل هيلمستيدر) في أحد المقالات* إنّ العالم (ميلفيل) قام بالإبلاغ عن أنواع من النباتات كانت تستخدم من طرف سكان الأوراس، وقد أهملها إلى الآن الطب الحديث مثل نبتة (Marrubium supinum) التي تسمى محليا ب "حشيشة الكلب" أو "التيمريوت" ونبتة (Cynoglossum pictum) المعروفة بعشبة لسان الكلب ونبتة (Sonchus maritimus)المسماة عشبة اللبين أو علك اللبين. وقد اعترف (مليفيل) أنّ بعض الممارسات الطبية كان لها مفعول السحر على المريض ومن ذلك قوله إنّ الحمى كانت تعالج بوضع ريش الهدهد على النار بينما يقف المريض فوقها حتى يلف جسده بالدخان الناتج عن حرق الريش، وقال إنّ أوراق الدفلة إذا أحرقت بنفس الطريقة سيكون لها نفس المفعول، إلى غير ذلك من الوصفات الطبية المحلية*. لكن ما هي علاقة هذا العالم بمنطقة مسعد؟ وما هو سبب الكتابة عنه في هذا المقال؟ لقد لفت انتباهي -وأنا أقرأ بعض الصفحات من كتاب ألّفه عن الجزائر على شكل مذكّرات- دقّة ملاحظة هذا الرجل واهتمامه بالصحراء الجزائرية، حيث سافر إلى الجزائر سنة 1903م ليتعرّف على خبايا الصحراء ومزاولة البحث وهواية الصيد، فكان يبادر بالاتصال برؤساء القبائل والقيّاد ليسهلّوا له مهمّة التجوال بكل راحة وأمن في الصحاري والجبال. يحدّثنا العالم (ميلفيل) في كتابه (الجزائر العاصمة وخارجها) (Algiers and beyond) عن اللقاء الذي جرى بينه وبين قايد قصور مسعد "القايد محمد السعيد بن السنوسي" –وهو على ما يبدو ابن القايد (بن السنوسي) المعروف في مسعد والمتوفى سنة 1899م- ومحاولة (ميلفيل) التقرّب منه ليحصل على رخصة للتجوّل في منطقة نفوذ القايد محمد السعيد. قال (ميلفيل) في كتابه إنّه كان وصل إلى الجزائر العاصمة في جانفي سنة 1903م، وذكر رحلته بقوله: «بعد يوم من وصولي قابلتُ (هاوبتمان) الذي بدا مليئا بالحيوية كما كان من قبل وحريصا على البدء في رحلتنا. ناقشنا مختلف الطرق ومناطق الطرائد الممكنة، وقرّرتُ في الأخير المضي قدما بالسكك الحديدية والتوجّه إلى (بوسعادة) في الصحراء الصغيرة، وهناك -وفي النهاية- نحدّد رحلتنا. لقد عرف (هاوبتمان) ثلاثة من السادة الألمان الذين كانوا يعانون في المنفى في (بوسعادة) لعدّة أسابيع من أجل رسم مشاهد مختلفة من الحياة الصحراوية، وكان يرى أنّهم سيكونون قادرين على تقديم نصائح قيمة لنا، وربما يوصون لنا بالخدم الموثوق بهم. ومع ذلك، فإنّ هؤلاء السادة سيأتون قريبا إلى الساحل، لذلك كنّا حريصين جدّا في البدء برحلاتنا في أقرب وقت ممكن من أجل لقائهم في بوسعادة. لقد حسبتُ أنّه يمكنني الحصول بسهولة على "رخصة صيد" في ثلاثة أيّام، وأنّ شراء الحاجيات الضرورية سيستغرق وقتا أقل، لكن الجوّ استمر ليكون فيما بعد سيئا للغاية، وقد كان (هاوبتمان) في البداية يعارضني بشدّة لكنه أظهر بعض علامات الرضا. انتظرنا مغادرة الجزائر قبل أسبوع، لذا فإنّ هذا الأسبوع لم يضِع تماما. قضينا جزءا من كلّ يوم في شراء الحاجيات على مهل وتلك الضروريات لحياة المخيّم مثل الأواني والمقالي والأكواب، الفانوس، سرير وفراش ل (هاوبتمان)، مسحوق البارود لتذخير البنادق، إلخ...». ويبدو أنّ (ميلفيل) قد علم بوجود أحد قيّاد منطقة الجلفة في الجزائر العاصمة فحاول انتهاز الفرصة للالتقاء به وطلب المساعدة منه. يقول (ملفيل) في كتابه: «وبإجراء استفسارات حول أفضل القيّاد وأكثرهم تأثيرا في الأراضي التي من المحتمل أن نمرّ بها، وتأكّدنا من أنّ رئيسا مهمّا من (الجلفة) كان موجودا بالجزائر العاصمة، ولم نضيّع أيّ وقت في التحقّق من المكان الذي ينزل فيه. على الرغم من أنّ (الجلفة) تقع إلى حدّ كبير في الجنوب من الصحراء الصغيرة، كونها تقع عاليا في الهضاب التي تفصل الصحراء العظمى عن الصحراء الصغرى، وبالتالي كانت أبعد من حدود رحلتنا كما تقرّر في الأصل، ومع ذلك فكرنا في أننّا لن نخسر شيئا إن تعرّفنا على رئيس تلك المنطقة فلربما قد يستهوينا الولوج إلى الجنوب من (بوسعادة)، وفي هذه الحالة سيكون هذا القايد قادرا على تأمين مساعدة معتبرة لنا. وبناء على ذلك، وفي أمسية باردة كانت السماء تمطر قبلها منذ ما بعد الظهر، التقينا القايد في فندقه بالقرب من مقر الحكومة، وبعد محادثة واحدة غير ناجحة، وجدناه في المنزل. كان الفندق الذي اختاره القايد رديئا جدّا بالنسبة لرجل ثري يفترض أن يكون في زيارة للمدينة. لقد كان مظلما، قذرا، وفيه مفروشات سيئة ... عندما علمنا أنّ القايد كان في الداخل، تمّ نقلُنا إلى الطابق العلوي من طرف خادم عربي وإدخالنا إلى غرفة صغيرة تحوي سريرين، طاولة، وبعض الكراسي، وكان الضوء الوحيد آتيا من طرف وميض شمعة. كان في الغرفة ثلاثة رجال وصبي صغير. كان القايد طويل القامة، عربيّا داكنًا مع لحية سوداء كثيفة ووجه مرتاح جدّا، كان يلبس زوجا من البرانيس المنسوجة بدقّة فوق سترة زرقاء داكنة. كانت أرجله مغطّاة بحذاء ركوب جلدي أحمر ناعم فوق الحذاء الأسود اللامع الذي كان يلبسه في المعتاد.كان مظهره العام أنيقا ونظيفا للغاية، ممّا شكّل تباينا مع قاطني الغرفة الآخرين. أمّا الرجلان الباقيان فأحدهما هو الخادم، أمّا الثاني فهو (مرابط) -أو قدّيس- من غرداية، مدينة بعيدة في الداخل بالصحراء الكبرى. هذا الأخير كان رجلا ذا مظهر لا يثير الإعجاب، كان أعورا ومتسخا للغاية، لكنه كان الوحيد بين الثلاثة الذي يجيد الفرنسية، لذا كان وجوده ضروريا. أما الصبي ابن القايد، فقد كان متأنقا بطريقة لائقة. عند دخولي أنا و(هاوبتمان) الشقّة بإشارة من الخادم العربي، وقف قاطنو الغرفة من على الطاولة التي كانوا يجلسون حولها، واستقبلونا ببرودة. شرحنا لهم من نكون وماذا نريد، وطلبنا منهم السماح بالمرور عبر منطقة نفوذ القايد. وبما أنّ القايد مجرّد مسؤول مدني شغل المنصب في ظلّ الحكومة الفرنسية، فإنّ إذنه للسفر في بلاده هو بأي حال من الأحوال ضروري، ولكن طلب الإجازة يمس كرامته، والطلب هو في الحقيقة إشارة إلى أنّه يجب أن يقدّم المساعدة للمسافر، والتي بدونها قد تكون الرحلة غير موفقة. بعد أن سألنا بعض الأسئلة حول ما كنّا نعزم القيام به، أعرب القايد عن استعداده للسماح لنا بالمرور عبر منطقته، وتقرّب منّا إلى حدّ أنّه قدّم لنا بعض البيرة والتي رفضناها، لأننا شعرنا بأنّه ليس لديه أي شيء في المبنى، وأيضا لم نكن متأكدين تماما فيما إذا كان من الحكمة تناول المسكرات في وجود "المرابط" من غرداية والتي كانت مساعدته لنا فيما بعد لا تقدّر بثمن، لذلك لاحظنا أنّنا كنّا على وشك تناول الطعام ويجب أن نكون سعداء للغاية إذا كان قبل القايد أن يكون ضيفنا. رفض القايد هذه الدعوى بحجّة أنّه تناول للتو وجبته المسائية، لكن أسلوبه تجاهنا تغيّر في وقت واحد. قال إنّه إذا جئنا إلى بلاده سيهيّء لنا أفضل المناطق التي توجد فيها الطرائد، وسيوفّر لنا خدما جديرة بالثقة، وأنّ أبناءه يجب أن يرافقونا في رحلتنا. شكرناه وشرحنا مخطّطاتنا الحالية، وعندها قال إنّه إذا جئنا إلى (الجلفة) تلك السنة، أو في أي وقت، كان علينا فقط أن نكلّمه وسوف يعطينا كلّ مساعدة في سلطته. أعطانا بطاقته، كانت لوحة كبيرة الحجم مثل جميع القيّاد، تحمل النقش: (محمد سعيد سنوسي قايد القصور، مسعد، دائرة الجلفة)». الهوامش: 1. Algiers and beyond ; 2. Axel. Helmstadter, Ethnopharmacology in the work of Melville William Hilton-Simpson (1881-1938)- historical analysis and current research opportunities, Pharmazie 71: 352–360 (2016). صفحة غلاف كتاب "الجزائر العاصمة وخارجها"
بعض الملاحظات التي كتبها (ميلفيل) في دفتره المحفوظ بمتحف بيت ريفيرز بجامعة أكسفورد