لم تشهد الشعوب العربية والإسلامية على حد سواء حراكا جماهيريا مثلما يحدث منذ أسابيع مضت، غذاه نجاح ثورتي تونس ومصر التي قامت ضد الاستبداد والقهر والحرمان لسنوات طويلة، ومع إنتشار هذا الحراك الجماهيري غير المسبوق، تعددت التحاليل وتنوعت حول الدول المرشحة لأن تعرف نفس مصير كل من تونس ومصر وحسب الترتيب. ولم يعد خفيا أن دولة مثل الجزائر رشحتها بعض التحاليل في بداية الأمر ضمن قائمة الدولة المعنية بهذا النوع من الحراك ولو بدرجة مختلفة، خاصة وأن مظاهرات تونس تزامنت مع تلك التي عرفتها الجزائر مطلع العام القادم، ولحسن الحظ لم تدم طويلا بعد أن عادت الأمور إلى طبيعتها مع التحرك السريع والمتواصل للجهات المعنية، قصد تطويق الأزمة من خلال عدد من الاجراءات الاستعجالية. ومنذ مسيرة السبت الماضي، التي أجهضتها قوات الأمن لعدم شرعيتها وفق ما تؤكد على ذلك وزارة الداخلية، بدأ التركيز ينصب شيئا فشيئا على الوضع الداخلي، وبدأت بعض التحاليل تسير في إتجاه التلويح باحتمال اندلاع احتجاجات أخرى معتمدة في ذلك على مغالطات، لا تعكس أبدا طبيعة الوضع الداخلي ولا استعداد الجماهير العريضة الانخراط في أية مسيرات قادمة محتملة. ومما يزيد في عشوائية التحليلات والمغالطات المقصودة أن ذات الجهات التي تصر على أن الجزائر باتت قاب قوسين أو أدنى من ثورة أخرى، تعتمد في توقعاتها على أطراف داخلية محسوبة على المعارضة، كما تحلو لها تصنيفها، رغم أنها تارة تغازل النظام، وتارة أخرى تحاول أن تعطي الإنطباع على أنها تعارضه، ولكن في كثير من الأحيان تنسحب طواعية من الحياة السياسية لتتفرغ لشؤونها الخاصة ومصالحها الضيقة. وعندما يتحرك الشارع احتجاجا على أوضاع مزرية لاتزال تعيشها فئات ليست بالهينة من المجتمع الجزائري، تستفيق أحزاب وشخصيات من سبات عميق، سعيا منها لركوب الموجة ولكن بعد فوات الأوان. لقد سبق الشارع الجزائري من خلال مظاهرات الشباب الأخيرة، كل الأحزاب السياسية في مطالبة السلطة بالتغيير نحو الأحسن. وهذا الأخير لا يعني فقط الجوانب المادية البحتة إنما تغيير العقليات والسلوكات والتكيف مع الاحتياجات الملحة ماديا ومعنويا، وإبداء المزيد من الإنفتاح السياسي والإعلامي، وتوفير المزيد من المنابر التي تسمح بحرية التعبير عن كل المشاكل والعراقيل التي يواجهها الجزائريون في حياتهم اليومية، حتى لا تتراكم في شكل كرات ثلج قد تؤدي إلى بركان من الثوران، مثلما حدث في تونس ومصر، ولكن أيضا مثلما حدث في جزائر الثمانينات عندما إندلعت حوادث 5 أكتوبر 88 الشهيرة. والواقع أن الجزائر التي شهدت مرحلة العنف منذ نهاية الثمانينات إلى نهاية التسعينات تبدو وبالنسبة للكثير من المحللين الواقعيين أنها محصنة إلى حد ما، ضد أي إنفجار مزلزل، نظرا للمعاناة الطويلة التي طالت الجزائريين لأزيد من 10 سنوات، كانت فاتورتها باهضة، مئات الآلاف من القتلى والجرحى وخراب ودمار وتشريد وحالة من اللاأمن سكنت القلوب لزمن طويل.. وغيرها من المآسي التي لا تزال ماثلة للعيان، والتي يبدو وأنها ستقف إلى حد ما أمام أية محاولات لتكرار ماحدث طيلة حقبة كاملة، شريطة أن تواجه مثل هذه المحاولات بإشارات واضحة نحو التغيير الحقيقي الذي يلمسه المواطن وعلى عدة مستويات. تغيير نحو الأحسن، يأخذ بعين الإعتبار تصحيح أخطاء الماضي، ومزيدا من الإهتمام بالانشغالات المتراكمة. ولعل الجهود التي تحاول الدولة بذلها منذ مدة تسير في هذا الاتجاه، والتي عبرت عنها في شكل إجراءات، اتخذتها في الأسابيع القليلة الماضية، وأخرى سيعلن عنها لاحقا، من شأنها أن تخلق مناخا سياسيا آخر، يعيد الروح إلى الحياة السياسية والاجتماعية وتفسح المجال واسعا أمام الكفاءات القادرة على إحداث التغيير المنشود نحو الأفضل والأحسن. لكن التغيير الذي ينشده بعض السياسيين حق أريد به باطل.