عندما إندلعت إنتفاضة الشباب الجزائري قبل أشهر طويلة مضت، ضد الظروف المعيشية القاسية، كانت ثورة الشباب التونسي قد سبقتها بقليل، واعتقد الجميع أن بداية الربيع العربي ستدشن من المغرب العربي لتسري في باقي الدول العربية المشرقية منها والخليجية. لكن الذي حدث، أن «ثورتنا» التي اندلعت بسرعة، انطفأت بنفس السرعة، بعد أن أوصل الشباب الغاضب جملة مطالبهم إلى الجهات المسؤولة التي عكفت ومنذ ذلك الحين على ترجمة تعهداتها إلى أفعال، جاءت في شكل إجراءات إستعجالية لتغيير واقع بائس عانت منه شريحة ليست بالهينة من المجتمع الجزائري، تنتظر دائما إستكمال ترجمة الأقوال إلى أفعال ملموسة وفعّالة. وقد يكون من الإجحاف إنكار أو التغاضي عن بعض المكاسب التي تحصل عليها معظم الجزائريين، تجلت أساسا في رفع الأجر أو توفير ما أمكن من فرص العمل، ولو أنها تبقى محدودة بالنظر إلى الحاجيات المتنامية في قطاعات عدة. غير أن مطالب الجزائريين ليست كلها مادية بحتة، بل تتعداها لتمس الحريات الفردية والجماعية والممارسة السياسية المبنية على الرأي والرأي الآخر، التي قد تبدو للبعض أنها لا تزال محدودة، مثلها مثل الممارسة الإعلامية. ولهذه الأسباب، ووعيا من الجهات المسؤولة بضرورة تلبية الحاجيات المادية والمعنوية لجميع أفراد المجتمع جاءت الإصلاحات المعلنة عنها قبل أشهر لتصحيح الكثير من الإختلالات التي طبعت الحياة العامة للمواطنين، وهي الإصلاحات التي يفترض أن تسير في اتجاه إرساء أسس ديمقراطية حقيقية، تعتمد على مبادئ الحرية والمساواة والعدالة والتداول السلمي على السلطة، وفق قوانين الجمهورية. المرحلة القادمة يفترض أن تكون حبلى بالتحولات والديناميكية المنشودة من قبل المجتمع الجزائري الذي يبدو أنه لا يزال يثق في ممثلي النظام للإنتقال بالبلاد من المرحلة الراهنة إلى مرحلة أكثر إنفتاحا وازدهارا سياسيا، إقتصاديا، إجتماعيا وإعلاميا. ولعل السلطة في الجزائر، قد تلقت الإشارات العديدة التي أرسلها الجزائريون تجاهها، وهي أنهم ينشدون تحقيق مطالبهم بالطرق السلمية، على الرغم من أنه في بعض الأحيان تثار قلائل واحتجاجات ضد ممارسات إعتقدوا أنها ولّت. غير أن أكبر الإشارات دلالة التي أرسلها المواطنون تجاه السلطة، هي رفضهم الشديد والقوي الإنسياق وراء دعاوي العنف والفوضى، أو كما أصبح يعرف منذ مدة بثورة 17 سبتمبر في الجزائر، معبرين بذلك عن درجة كبيرة من الوعي، خاصة من قبل الشباب الذي جعل من هذا التاريخ (لا حدثا) والذي لم يفوت فرصة التنديد بمحاولة إثارة الفتنة والفوضى الهدامة. رفض الإنسياق وراء دعاة التحريض والثورة المزعومة في الجزائر، يعني أن الجزائريين على قناعة تامة بأن المشاكل العديدة التي لا تزال عالقة لن تكون الطعم السام الذي يحول البلاد إلى خراب مثلما هو عليه الحال في العديد من الدول العربية التي شهدت ثورات الربيع العربي وبقيت في حالة لا إستقرار ومصير مجهول وغموض يكتنف مستقبلها، وأخرى أصبح مصيرها بين أيادي الغرب والناتو. لا للثورة في الجزائر، لا للقتال والخراب والدمار واستباحة الدماء.. نعم للتغيير الهادئ والممنهج والهادف... هذه هي الرسالة القوية للجزائريين، عبروا عنها في مناسبات عديدة كانت متاحة لهم للخروج إلى الشارع مثلما حدث في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا والبحرين... لأنهم قالوها بعبارة بسيطة وعميقة أن ثورة التغيير أنجزت قبل أزيد من عقدين، وأنهم غير مستعدين لتكرار تجربة العنف المسلح والدموي لسنوات التسعينات الذي عبث باستقرار البلد وأدخله في دوامة ما كادت أن تنتهي حتى أرادوا الزج به في دوامة أخرى، ولكن هذه المرة بتحريض من الخارج، وخاصة من أولئك الذين لم يهضموا فكرة أن الجزائر بلد حر وسيد في قراراته وهو ما برهن عليه في الكثير من المناسبات، خاصة خلال أزمات الربيع العربي.