اشتد خناق القدرة الشرائية على المواطن، الذي أصبح رهين واقع مرّ اضطره إلى التهاوي من الطبقة الوسطى التي تؤول على ضوء المعطيات الاقتصادية إلى الاضمحلال، إلى دائرة الحاجة بسبب عجزه عن تلبية الكثير من المتطلبات والمستلزمات اليومية، سواء كانت فردية أو أسرية. بالرغم من كل تلك الشعارات التي يحاول البعض تسويقها عبر مختلف الفضاءات الإعلامية، إلا أن صور الطوابير الطويلة في مختلف الشوارع والأحياء لمواطنين ينتظرون كيس حليب ب25 دينارا لمدة قد تتجاوز الساعتين، تبقى أبلغ تعبير عن معاناة المواطن اليومية مع لقمة عيش يزداد في كل يوم التضييق عليها، بسبب جشع تاجر يبحث عن تعويض خسائره في فترة الحجر الصحي الكلي والجزئي، وتهاون الإدارة في ضبط السوق ومراقبته. وجد المواطن نفسه بعد الفتح التدريجي بين مطرقة أجر لا يكفي لتلبية المستلزمات اليومية وسندان تهاوي قيمة الدينار؛ معادلة صعبة لن تكفي خوارزميات الرياضيات لحلها، لأننا أمام معاناة إنسانية أعادت الجزائريين إلى مهن يعكس ظهورها تدني المستوى المعيشي للفرد. الصدمة الاقتصادية كشفت آخر الدراسات تأثر القدرة الشرائية بتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، وتهاوي أسعار النفط والأزمة الصحية للجائحة العالمية التي وضعت اقتصاد مختلف الدول، والجزائر إحداها، في حالة ركود شامل لم تضاه آثارها سوى الأزمة الاقتصادية العالمية في 1929 التي جرَّت العالم إلى حرب عالمية ثانية. في مقارنة قامت بها إحدى الدراسات الجامعية بين ميزانية المواطن في 2020 وإحصائيات 2011 قام بها الديوان الوطني للإحصاء، وجدت أن ميزانية المواطن ارتفعت مخصصاتها المتعلقة بالغذاء من 41.8 بالمائة في 2011 إلى 58 بالمائة في 2020، بينما انخفضت الميزانية المخصصة للألبسة والأحذية من 8.1 بالمائة إلى 6.37 بالمائة وكذا تلك المخصصة للسكن من 20.4 بالمائة إلى 17 بالمائة. ولم يكن حال الميزانية المخصصة للأثاث أفضل، فقد انخفضت من 2.7 بالمائة في 2011 إلى 2 بالمائة في 2020، أما الصحة والنظافة فتراجعت من 4.8 بالمائة إلى 3.77 بالمائة، ثم النقل والاتصال من 12 بالمائة إلى 9 بالمائة، ولم تستثن التربية والثقافة فقد تم تسجيل انخفاض من 3.2 بالمائة إلى 2.51 بالمائة وأخيرا مستويات أخرى من 7 بالمائة إلى 1.35 بالمائة. وبلغة الأرقام، الميزانية الوحيدة التي سجلت ارتفاعا هي الموجهة للغذاء، فيما سجلت الأخرى انخفاضا واضحا حتى تلك المخصصة للصحة والتربية، ما يعني أن المواطن يواجه كل يوم متاعب في رحلة كسب رزقه من أجل الإبقاء على حياته، من أجل ضمان أداء جسمه لوظائفه الحيوية على الأقل، أما الرفاهية فأصبحت بسبب الخانقة مجرد حلم بعيد المنال، فمع اجتماع العوامل الاقتصادية، الاجتماعية أصبح المواطن يعيش في عنق الزجاجة. الأغرب من كل ذلك، أن تتخذ الدولة كل القرارات اللازمة لتخفيف وطأتها على المواطن منذ السنة الفارطة بدون أن تبلغ الأهداف المرجوة، فلا كيس حليب أصبح متوفرا للمواطن، ولا السوق ضبطت أسعارها، ولا السوق الموازية حصّلت جبايتها لتعود بالإيجاب على الخزينة العمومية. علاقة طردية الوضع الحالي للقدرة الشرائية يتطلب حلولا استعجالية لمنع رقعة الفقر والعوز من الاتساع على الأقل. فالمختصون اليوم يطالبون بأجر 80 ألف دينار كأجر الكرامة، بينما مازالت تتلقى بعض الفئات العمالية أجر 18 ألف و20 ألف و30 ألف دينار، الهوة كبيرة فلا يمكن تخيل مثلا حياة عائلة من أربعة أفراد بأجر يساوي 18 ألف دينار هي في الحقيقة لا تكفي حتى للغذاء، فبعملية حسابية بسيطة تمثل نسبة 58 بالمائة الميزانية المخصصة للغذاء ما يعادل 10.440 ألف دينار، أي يبقى لرب الأسرة ما يقارب 8000 دينار لباقي المتطلبات. ولأن القدرة الشرائية هي كمية السلع والخدمات التي يمكن شراؤها باستخدام وحدة نقدية ارتبطت قوتها بسعر صرف العملة، ما يعكس علاقة طردية فكلما ارتفع سعر الصرف ارتفعت القدرة الشرائية، وكلما تهاوى سعر الصرف (وهو الحاصل اليوم) تدهورت القدرة الشرائية، لذلك تعاني الجزائر اليوم انكماشا وتضخما بسبب الهزات الارتدادية للأزمة الاقتصادية والصحية الاستثنائية. آثار مقلقة الأثر الاقتصادي على القدرة الشرائية للمواطن لن يكون بدون آثار اجتماعية ونفسية على الفرد، نستطيع لمسها في ارتفاع ظاهرة الإجرام والقتل في المجتمع، فقد تحوّل الفقر إلى سبب كاف لوضع حد لحياة أحدهم، سواء بقتل نفسه أو أحد أقربائه. وبالرغم من محاولة الدولة امتصاص تداعيات الأزمة الصحية، إلا أن الأخيرة زادت من نسبة البطالة، خاصة في مجال المهن الحرّة، حيث تخلى الكثير عن نشاطهم الاقتصادي بعد إجراءات الغلق والحد من النشاطات التجارية، وتكبد التجار خسائر كبيرة، حاولت الدولة تخفيف صدمتها عليهم من خلال استفادتهم من تعويض، لكن تهاوي القدرة الشرائية زاد من حدة الأزمة، ولعل غلق الكثير منهم محلاتهم، أو الاستغناء عن بعض مستخدميهم الحل الأنسب بالنسبة لهم لتفادي الأسوأ.