أدت حكومة «روشي» بقيادة عبد الرحمان فارس، دورا كبيرا في ضبط وتسيير مرحلة حساسة ومفصلية من تاريخ الجزائر والثورة التحريرية، أدارت بحكمة المرحلة الانتقالية الفاصلة ما بين وقف إطلاق النار بتاريخ 19 مارس 1962 إلى غاية تنظيم استفتاء تقرير المصير الذي جرى يوم الفاتح جويلية من نفس السنة، وهو اليوم المشهود الذي وضع حدا ل132 سنة من الاستعمار، وبزغ عنه فجر جديد بتأسيس الدولة الجزائرية الحديثة المستقلة، التي حلم بها الشهداء وضحى من أجلها الشعب الجزائري بالغالي والنفيس. بالرجوع إلى أهمية الهيئة التنفيذية المسماة «روشي نوار» (اسم بومرداس في العهد الاستعماري)، لابد من التوقف عند مرحلة هامة وفاصلة في مسار النضال الوطني وثورة التحرير، ألا وهي مناسبة وقف إطلاق النار بتاريخ 1 جويلية 1962، التي كانت سببا مباشرا في تأسيس هذه الحكومة، التي أوكلت لها مهمة صعبة ومحددة هي الإعداد والإشراف على عملية استفتاء تقرير المصير، في ظروف كانت صعبة جدا ومضطربة بشهادة عديد المؤرخين وزعماء الثورة، بالنظر إلى العراقيل الممارسة من قبل السلطات الاستعمارية، وتوسع عمليات التخريب الممنهج من قبل المنظمة المسلحة السرية الإرهابية. وأجمع عديد الباحثين والمؤرخين الجزائريين، على الدور الكبير الذي أدته هيئة «روشي نوار» بقيادة عبد الرحمان فارس في التصدي لمحاولات التشبث بفكرة الجزائر - الفرنسية، وإدارة المرحلة الانتقالية بحكمة وحذر وتجنب كل أشكال الضغوطات الممارسة، من قبل جبهة الرفض الفرنسية لمبدإ استقلال الجزائر التي بدأت تتسع وتأخذ أبعادا خطيرة اتسمت بالعنف والتصفية الممنهجة. وهي مرحلة هامة وحساسة من تاريخ الجزائر، بقيت، بحسب بعض الباحثين في التاريخ الوطني، بعيدة عن الأضواء إلى درجة أن كثيرا من المواطنين، بمن فيهم مواطنو الولاية يجهلون هذه الحقيقة التاريخية وتفاصيلها الدقيقة. حكومة فتية في مواجهة منظمة إرهابية ساهمت أبحاث ودراسات عدد من المؤرخين الجزائريين، ومنهم المؤرخ محمد عباس في تدخلاتهم المتعددة حول هذه الفترة التاريخية الفاصلة بين مرحلتين حاسمتين، في التأكيد «أن مهام الهيئة التنفيذية «روشي نوار» بولاية بومرداس، التي تأسست مباشرة بعد اتفاقية ايفيان، اتسمت بالكثير من التحديات. ولم تقتصر فقط على مهمة تسيير المرحلة الانتقالية، وتنظيم استفتاء تقرير المصير الذي كان يتطلع إليه الشعب الجزائري، مثلما نصت عليه المادة 17 من الاتفاقية المتضمنة «ضرورة إجراء استفتاء خلال فترة حددت ما بين ثلاثة إلى ستة أشهر من تاريخ نشر النص، وشهرين من تنصيبها الرسمي. إضافة إلى تشكيل قوة محلية للإشراف على العملية الانتخابية»، بل كان لها دور كبير أيضا في مواجهة أعمال المنظمة الفرنسية الإرهابية التي قادت حملة من العنف، والاغتيال المنظم لكل الرموز الوطنية وحتى الفرنسية الداعمة لعملية الاستفتاء وتقرير المصير، بشعار: «الجزائر فرنسية وستبقى فرنسية». وأكدت شهادات الباحثين، أن الهيئة التنفيذية واجهت صعوبات مادية وإدارية كبيرة في إدارة هذا الاستفتاء التاريخي، بالنظر إلى قلة الإمكانات وصعوبة التحضير للموعد في فترة قصيرة وأيضا طريقة الوصول إلى كافة أفراد الشعب الجزائري، خاصة في الأرياف والقرى بسبب أزمة الاتصال من أجل دعوتهم إلى ممارسة حقهم في التصويت، وأيضا مواجهة خداع السلطات الفرنسية الهادفة إلى عرقلة العملية. 6 ملايين جزائري صوتوا بنعم بالرغم من كل العراقيل وأعمال التصفية التي كانت تمارسها المنظمة المسلحة السرية الفرنسية لعرقلة مسار الاستقلال وتقرير المصير، إلا أن الشعب الجزائري أثبت نضجه ووعيه وقال في نهاية المطاف كلمته الأخيرة بالتصميم على الانعتاق من براثن المستعمر الفرنسي، وتحقيق حلمه في الاستقلال، بالرغم من كل العقبات التي وضعت في طريقه الشاق والطويل. وجاءت نتائج التصويت التي ظهرت صباح يوم 3 جويلية 1962 صادمة لكل الحالمين والمتشبثين بالاحتلال من المتطرفين والجنرالات ومعهم المستوطنين والمرتزقة من الأقدام السوداء والحركى، صوت حوالي 6 ملايين جزائري بنعم من أصل 6.9 مليون مسجل موزعين عبر 15 مقاطعة بنعم بمقتضى المادة 24 من الباب السابع المتعلقة بنتائج تقرير المصير، والمادة 27 من اللائحة التي تلزم فرنسا بالاعتراف فورا باستقلال الجزائر، مع تكليف الهيئة التنفيذية المؤقتة خلال ثلاثة أسابيع بتنظيم انتخابات لتشكيل الجمعية الوطنية الجزائرية، التي ستتسلم السلطات إلى غاية ليوم 5 جويلية تاريخ إعلان استقلال الجزائر. ولا يزال إسم بومرداس أو الصخرة السوداء، مرتبطا بهذا الحدث المفصلي في تاريخ ثورة نوفمبر المجيدة الذي مهد الطريق لاستقلال الجزائر بعد عملية الاستفتاء، وعليه فإن مقر هيئة «روشي نوار» المتواجد حاليا بجامعة امحمد بوقرة، يحمل رمزية تاريخية هامة في نظر الكثير من المؤرخين والمناضلين لارتباطه بمحطة مصيرية من تاريخ الجزائر الحديث. وتحول المقر، الذي استفاد من مشروع للتصنيف كمعلم وطني تاريخي، إلى مزار للكثير من الشخصيات الوطنية والأجنبية التي زارت الولاية، بالنظر إلى ما يمثله من دلالة ورمزية ومكان شاهد على ميلاد الدولة الجزائرية المستقلة، وعلى حجم التضحيات التي قدمها الشعب الجزائري من أجل تحقيق هذا اليوم المشهود الذي سيظل محفورا في الذاكرة الوطنية.