لم تكن لتبخل علينا الكاتبة والاعلامية والمجاهدة الفذة التي غادرتنا منذ أيام إلى الرفيق الأعلى، بلقاء صحفي معها حين طلبنا منها تخصيص موعد لذلك، في بادئ الأمر كان سؤالها لنا عن موضوع المقابلة، وحين عرفت بأنه سيتمحور حول مسارها الاعلامي لا سيما في جريدة «الشعب»، لم تتأخر في دعوتنا إلى بيتها المتواضع، أين فتحت لنا قلبها وسردت لقرائها مسارها العريق والمليء بالنشاطات والمغامرات والتحديات وكذا «الجرأة» التي جعلت منها واحدة من أبرز الشخصيات الاعلامية داخل الوطن وخارجه، والتي يحسب لها ألف حساب قبل نشر كتاباتها. أردنا في هذا المقام أن نعود إلى هذا اللقاء، لنكشف من جديد ولو قليلا عن صحفية «الشعب»، وواحدة من الأقلام الرائدة التي اتسمت بجرأتها الاعلامية والسياسية والثقافية دفاعا عن الجزائر وتاريخها. أجبرت على الكتابة للمرأة توجّهت الصحفية والمجاهدة الراحلة زينب الميلي في بداية مسارها الاعلامي بجريدة «الشعب» إلى المرأة، حيث كانت تهدف من وراء ذلك إلى توعيتها وتسليط الضوء على أمور تخصها في حياتها اليومية، وذلك من خلال عمود خاص بها، وصفحة قسمتها إلى أركان من بينها «هل تعلمين» و«فكاهات للمرأة».. وقد كان يشارك زينب الميلي في «صفحة المرأة» عدد من الأقلام النسوية من بينها سعاد عبد الله، والشاعرة العراقية نازك الملائكة. لم تختر زينب الميلي الكتابة عن المرأة، بل وُجهت في بداية مسارها الاعلامي للكتابة عنها دون رغبة منها، وذلك حتى لا تخوض في تخصصات أخرى، حيث قالت إنها «كانت تكتب في قضية لا تؤمن بها»، ولكنها بعد مغادرتها للجريدة بدأت تكتب بكل حرية. توّلت زينب الميلي رئاسة تحرير مجلة «الأنباء الاقتصادية»، كما عملت «بمجلة الاذاعة والتلفزيون» مع الطاهر بن عيشة، والتي كانت شاهدة على قلمها الحاد، وكتاباتها المصحوبة بانتقادات وجدالات دون تخوف من ردة فعل الطرف الآخر أو قرائها، خاصة أنها تميزت بطرحها لأفكار مخالفة لمجتمعنا في بعض الأحيان. بداية الميلي مع الكتابة انطلقت إبان الثورة التحريرية المجيدة، حيث كانت تكتب أحيانا بأسماء مستعارة وأحيانا دون إمضاء، خوفا من والدها، مشيرة خلال حديثها إلينا أنه لم يكن على علم بكتاباتها، حيث كتبت أيضا في «المجاهد» و«المقاومة»، وفي بعض الجرائد التونسية. زينب الميلي منعت في وقت ما حين سافرت إلى بلد أجنبي من الكتابة، على اعتبار أنها زوجة سفير وليست بحاجة للعمل، وهو ما دفعها للكتابة خفية بسبب البيروقراطية التي تعمل على قتل الموهبة والابداع من جهة، وبسبب العدائية لبعض الأشخاص لها من جهة أخرى وما أكثرهم، كما صرّحت الراحلة بذلك. تحدّثت الراحلة زينب الميلي عن لقائها بالشاعر الفلسطيني محمود درويش وحوارها الذي لم ينشر كاملا بسبب الأفكار الجريئة لكليهما، حيث قالت: «حين أعود إلى الأرشيف أضحك بسبب هذا الحوار الذي بتر نصفه، وبقي فيه مجرد حديث سطحي»، مؤكدة أنها تأثرت بشكل كبير عند وفاته، حيث توجهت آنذاك إلى السفارة الفلسطينية لتقديم تعازيها في السجل الذهبي المخصص لذلك، أين تفاجأت حينها بغياب كبار الشخصيات عن تأبينية من أسمته بشكسبير العرب. لساني سبب تهميشي لسانها ومواقفها الجريئة سبب تهميشها وانتقادها من قبل الكثيرين، هو ما كانت تؤكده زينب الميلي التي أشارت إلى أن النفاق والمجاملة من أكثر الصفات التي تكرهها، كما أنها كانت ممنوعة من تغطية النشاطات الرسمية بسبب حدّة قلمها، وكما قالت «وُضعت على الرّف إلى أجل غير مسمى»، وهو ما دفعها إلى اللجوء إلى الرقابة الذاتية على مواضيعها، بعد أن كتبت في عديد الجرائد ولم تنشر مقالاتها، حيث يكفيهم أن يروا اسم زينب الميلي أو زينب الابراهيمي لوضعها جانبا، تضيف محدثتنا. لم تمنع مقالات زينب الميلي من الصدور فقط، بل مُنعت أيضا من السفر خارج الوطن، وأشارت إلى أن الجميع كان يشهد لها بكتاباتها، إلا أن (لسانها) كما أكده لها أحد المسؤولين آنذاك سبب منعها من التغطيات، وقد تعرضت للعديد من المواقف طيلة مشوارها في عالم الصحافة، والتي لم تندم من ولوجها بحسب تصريحاتها حيث مكنتها من اكتساب العديد من المعارف وربط علاقات مع شخصيات من داخل وخارج الوطن، وأن تقول كلمتها دون قيد أو خوف حتى وإن لم يتم نشرها. الاعلامية والمجاهدة زينب الميلي كانت من المهتمات بالتراث المادي واللامادي وكانت تقيم معارض فردية لها في الفن التشكيلي، لكن العديد من الصحفيين كانوا يتجنبون محاورتها خوفا من تصريحاتها الجريئة كما أكدته في لقائنا معها حتى أن إحدى الشخصيات حين مرّ بمعرضها خاطبها مبتسما «أعرف لسانك الحاد ولكن لا أعرف أنك فنانة تشكيلية». زينب الكاتبة لم نفوّت فرصة تواجدنا مع زينب الميلي لنتحدث معها عن زينب الكاتبة، حيث أكدت خلالها أن كتابها «عرائس الجزائر» جاء بناء على رغبة ابنتها التي كانت تطلب منها صناعة عرائس يرتدون لباس الشاوية والقبائلية والترقية.. لكن ابنتها وفي اليوم الذي ذهبت فيه لشراء دمية لتجسيد رغبتها توفيت في حادث سير في سن الرابعة عشر، وهو ما جعل زينب الميلي تجسد رغبتها تخليدا لذكراها من خلال هذا الكتاب، الذي يحمل عادات وتقاليد وتاريخ الجزائر العريقة، والذي اشتغلت عليه لمدة 30 سنة، لكنها صادفت عراقيل كبيرة في طباعته لا سيما من الناحية المادية، خاصة كذلك وأنها كانت ترفض أن يطبع في الجزائر، كما واجهت عراقيل وضغوطات للقيام بمعارض فنية خاصة بالدمى لا سيما خارج الوطن. مذكرات زينب.. حلم لم يتجسّد زينب الميلي كشفت آنذاك أنها تنوي كتابة مذكراتها في حال تفرغها لذلك بسبب الظروف الصحية لزوجها الوزير والدبلوماسي الراحل محمد الميلي، لتبقى مجرد أمنية لزينب والتي لم يتجسد على أرض الواقع.. وما هذه إلا قطرة من فيض بحر مما روته لنا الاعلامية والكاتبة والمجاهدة زينب الميلي، والتي أبانت فعلا عن مواقفها السياسية والثقافية الجريئة سواء داخل الوطن أو خارجه، والتي لم تكن لتخفيها حيث كانت تعمل بضميرها كما قالت وحبا لوطنها الجزائر.