شبح اندثار وزوال فن المالوف قائم في غياب مدارس متخصصة صوته يذكرنا بصوت المنيار، هدوؤه يوحي بوقار الشيوخ، أنامله وهي تداعب العود تعيدنا للزمن الجميل، الفنان الخلوق عدلان الفرقاني، الموهبة التي تعدنا بكتابة التاريخ ورواية المالوف القسنطيني على طريقة الكبير العميد المرحوم الحاج محمد الطاهر الفرقاني، يعمل بجهد للحفاظ على ما تركه له الجد، وهو الوريث صاحب الصوت الشبيه للمنيار الذي لا يزال يحيي حفلات وأعراس قسنطينة، بشوق العود وحب الفن الأندلسي الذي ترعرع وسطه ونهل من نصائح جده الأيقونة الذي اكتشف موهبته الفنية وصوته الفريد منذ صغره. انطلق في رحلة الألف ميل لتعلم مهارات جده الموسيقار وخبرات عميد وشيخ من شيوخ المالوف.. فالحديث عن المالوف يرتبط ارتباطا وثيقا بعائلة الفرقاني التي انبثق عنها شيوخ الفن العريق، وساهمت في نشر الطابع الموسيقي ولعبت دورا كبيرا على حمايته من الاندثار، وجعلت من نغماته جسرا يصل بين العالم العربي والغربي ليذيع صيت المالوف عبر أرجاء العالم، المالوف صنع التميز والانفراد، وابهر جمهوره لسنوات عبر خشبة المسرح من خلال حناجر ذهبية أبت إلا أن تطرب الحضور بنغمات المالوف القسنطيني، هو من أنصتت له خشبة المسرح وهتفت له القلوب، «الشعب» تقربت من الفنان الشاب الذي فتح لنا قلبه من خلال هذا الحوار المتميز، الذي حدثنا فيه عن حياته الفنية وعن جديده المنتظر طرحه. الشعب: بداية، نوّد أن نعرف القراء أكثر على الفنان عدلان فرقاني، وكيف ومتى كانت الانطلاقة؟ عدلان فرقاني: أنا من مواليد مدينة قسنطينة، ترعرعت في وسط فني منذ نعومة أظافري، كنت ومنذ سني الصغير تربطني مشاعر حب بهذا النوع من الموسيقى، فتجدني أستمع للموسيقى الأندلسية في مقدمتها المالوف، بأذن العاشق وعين المحب لمؤذيها على رأسهم الجد الذي كان قدوتي في العزف والحفظ، فقد تمكنت بفضله من إتقان جميع الآلات الموسيقية في مقدمتهم «الدربوكة» وأنا في سن السابعة، وأديت أول أغنية على الركح بمفردي وأنا في عمر 15 سنة، لأجد نفسي عاشقا للفن أدندن القصائد في سن مبكرة لتنطلق قصة حياتي مع المالوف الذي يسري في مجرى عروقي، كيف لا وجدي كان عرابا لي ومدربا لموهبتي في الحفظ والأداء، نشأت على وتر الأندلسيات ونوطات القصائد والموشحات، وعلى هذا الحال وجدت نفسي على خطى الأجداد أترنح بين القصيدة والأخرى آملا أن أكون خير خلف لخير سلف. المالوف بالنسبة لي مسؤولية، ولابد من الحفاظ على هذا الفن القديم باعتباري شاب وابن هذه العائلة التي تعتبر فنية وبامتياز، لابد من العمل وبجهد على إحياء هذا النوع الموسيقي عبر مختلف المناسبات سواء مسابقات عربية، حفلات وطنية ومحلية، مناسبات عائلية نحاول من خلالها الحفاظ على هذا الموروث الثقافي الفني الذي لابد أن نحافظ عليه نحن أبناء المدينة، خاصة وأن شيوخها تركوا لنا إرثا فنيا كبيرا ينتظر منا نحن الجيل الجديد أن نعمل عليه ونحفظ قصائده ونجيدها، حتى نغنى عبرها لكل هؤلاء العمالقة الذين تركونا جسدا وليس روحا. كما لا أخفي عليكم أن البيئة الفنية التي نشأت وسطها كانت غنية بكل الأنواع الموسيقية، بدءا بالآلات والطبوع وصولا لتقنيات الحفظ والإلقاء، حيث انطلقت على يد والدي ثم جدي الحاج محمد الطاهر الفرقاني رحمة الله عليه، لأجد نفسي محاطا بفواعل الفن القديم واتمرس العزف على جميع أصوله، وأحفظ القصائد بطريقة سلسة وعلى يد العميد، ليكون لي رصيدا ثريا من الأغاني وأنا في سن جد مبكرة، خاصة وأن الجد فخور جدا بقدرتي على الأداء والحضور حيث كان دائم القول «أنني خليفته». باعتبارك حفيد الأسطورة، كيف تنظر إلى هذه المسؤولية؟ أعتبرها مسؤولية كبيرة، وأنا بصدد العمل الصارم لاستكمال مسيرة العائلة الفنية رفقة أعمامي على رأسهم الشيخ سليم الفرقاني، مراد الفرقاني وغيرهم من الفنانين المعروفين بأداء فن المالوف، والذين تتلمذوا على يد شيوخ الفن، كما أن الحفاظ على الأخلاق الحميدة والتربية والتعامل الطيب والحسن مع الآخر يعتبر أولوية، لأنه قبل الفن لابد من التربية لنحافظ على اسم العائلة الذي يعتبر أولوية، ليليه بعدها الفن حيث يأتي في الدرجة الثانية والذي بفضله يتمكن الشخص من تطوير نفسه كفنان وتمثيله لفنه في أرقى صوره، هذه الأخيرة التي أعتبرها مسؤولية كبيرة وقد رفعت التحدي للحفاظ على كل ما علمني إياه جدي لنتوارثه جيلا بعد جيل.. وباعتباري حفيد الفرقاني، هذا يعتبر بالنسبة لي حافزا قويا لاستكمال المسيرة الفنية ولا يمكنني التراجع عن خدمة هذا الطابع الذي تعب فيه أجدادي رفقة شيوخ آخرين، ومسؤولية تطوير الطابع الأندلسي ضرورة وتحدي قام به المرحوم من قبل، ما جعله يتماشى والتطورات الحاصلة في مجال الفن ليجد المالوف نفسه اليوم يتحدى تكنولوجيات وتطورات بفضل ما قدمه العميد سابقا، وما علينا سوى الاجتهاد مثله للذهاب بالمالوف بعيدا وطويلا. ومن هو الشخص الذي دعم مسيرتك الفنية؟ باعتبار أن والدي وجدي محمد الطاهر رحمة الله عليه، هما أول من اكتشفا موهبتي من هناك انطلقت مسيرتي الفنية وتحديدا في سن السابعة، تعلمت أثناءها العزف على آلة الإيقاع ثم الدربوكة، ثم بعدها العزف على مختلف الآلات الموسيقية التي تستعمل في أداء المالوف، لقد دعمني جدي كثيرا، وكان فخورا وسعيدا بموهبتي لدرجة أنه كان يقول لي أنني خليفته، حيث أهداني وقتها آلتي الكمان والعود الخاصة به، لأنه كان راض على أدائي وموهبتي الذي صقلها بنصائحه ودروسه النظرية والتطبيقية، مع أنني لا أحب كلمة خليفته لأنه يبقى العميد والأسطورة ولا أملك ما كان يملكه من مقومات، وأن صوته لا يمكن أن يخلفه أحد، لكن اليوم يمكنني أن أستلم المشعل وآخذ بوصيته بالحفاظ على هذا الفن العريق والمتوارث عن الأجداد. ما هي الطبوع التي يمكن أن يؤديها عدلان بعيدا عن الطابع الأندلسي؟ شخصيا كل فن نظيف يعنيني، وأنا أغرم وبشكل كبير بكل الأنواع الموسيقية الجميلة مادام أنها تقدم انعكاس خلوق ومعبر عن ثقافات وعادات مجتمعية، حيث تجدني أتذوق الشعبي، الحوزي، الشرقي والأندلسي وكل الطبوع بما أنها تقدم فن أصيل ومتجذر، وبحكم أني ومنذ صغري وأنا أحتك بالطابع الأندلسي وتحديدا فن المالوف، تجدني أهتم أكثر به وأحاول بقوة للتقدم وتقديم ما يساعد في نشره والحفاظ عليه من الزوال والتهميش، لا سيما في ظل التنوع الهائل للموسيقى. أطلقت سابقا تحدي أوركسترا بإيقاع وأداء منفرد، هل يمكن أن تحدّثنا أكثر عن التجربة؟ هي كانت مجرد فكرة أنعشتها فترة الوباء، باعتبار أن كل فرد من الفرقة الموسيقية «الجوق» منعزل بمنزله بحكم الحجر المنزلي، حيث قمت بابتكار أوركسترا بإيقاع منفرد ومونتاج متميز للفكرة، والتي تتلخص في تشكيلي لجوق حيث استغليت تمكني من العزف على مختلف الآلات الموسيقية كالعود، الدربوكة، البيانو والجوق والذي يعتبر أصعب آلة موسيقية إلى جانب المندولين، الكمان والقيثارة، لأتمكن من رفع التحدي وأقدم على هذا الأساس أسطوانة تضمنت مديحا دينيا جاء تحت عنوان «صلوا على الهادي»، وأغنية «يدوم هناكم» بأوركسترا فردية متنوعة الإيقاع، وأنا أطمح مستقبلا للقيام بألبوم كامل وبأوركسترا فردية، وهو التحدي الذي قمت به كتجربة أولى وحصرية والذي أعتبره إنجاز في حد ذاته. كيف تقيم عملك الفني، هل أنت راض عما تقدمه للمالوف؟ القصائد ملك للجميع، وليست مقتصرة فقط على عائلة الفرقاني والجميع يعلم بأنها إرث لكل شخص يحب المالوف، كما أنني راض على ما أقدمه للفن وتحديدا المالوف باعتباره الطابع الذي أتقنه عن جدارة، ولكنني دائما ما أرى نجاحي في حب جمهوري وتفاعلهم مع أدائي.. وهو ما أعتبره نجاح وأنا لا أزال في طور التعلم لتقديم ما هو أحسن لعشاق المالوف الذي يعتبر موروثا ثقافيا منفردا بمناطق معينة، وأتمنى أن أواصل المشوار بكل نجاح لأنه إرث غنائي قسنطيني محض، تركه الشيوخ من بينه جدي المرحوم محمد الطاهر الفرقاني الذي كان دائما فخورا بي وبصوتي وأدائي، وهو ما يدفعني دائما للأمام وأمثل الجيل الرابع لعائلة الفرقاني. كما أن تحسين الأداء ضرورة لترقية العمل الفني دون المساس بجوهر المالوف والقصائد، بمعنى الحفاظ على قدمه وعدم تحريفه، ليتلخص العمل في تمكن الفنان من العزف على عديد الآلات الموسيقية التي تستخدم في فن المالوف، باعتباره قائد الفرقة الموسيقية وليس من الممكن أن لا يتقن العزف، هنا سيكون قائد الأوركسترا ناقص وغير قادر على قيادة جوقه الخاص، فالصوت الجميل لا يكفي لتكون صاحب جوق موسيقي يؤدي المالوف القسنطيني. إذن، هل تعتبر أن دراسة الموسيقى مهمة في حياة الفنان، خاصة وأن معظم الأصوات الناجحة لم تدرس؟ بالنسبة لي دراسة الموسيقى بالغة الأهمية بالنسبة لفنان، بحيث يجب أن تكون من أولوياته، إضافة إلى تعلم كيفية السمع الصحيحة وكذا الحفظ، وعموما الأصوات الناجحة هي نتاج تمرس واعتياد على الأداء، ومن هناك تخلق شخصية الفنان وإذا لم تتكون شخصية الفنان فهناك خلل، يعني أنه مجرد مقلد لفنان آخر لا غير، ولن يتمكن من الخروج من قوقعة التقليد وتكرار ما يؤدّيه فنانين آخرين، وهنا تكمن أهمية الدراسة هذه التي تصنع شخصية الفنان بطريقة أكيدة. كيف ترى مستقبل المالوف في غياب الشيوخ والمدارس المتخصصة؟ أعتبر أن غياب المدارس المتخصصة في تلقين وتعليم فن المالوف مشكلا حقيقيا، حيث أن المالوف اليوم لا يخرج عن منطلق الاجتهادات الفردية التي تفتقر لهيئة ثقافية ترافق وتحمي وتشجع الجيل الناشئ، فإنشاء مدارس أو حتى فيدراليات فنية ترعى المالوف وتحميه من الانحراف والضياعّ، فهذه الأخيرة قد تلعب دورا كبيرا في تكوين جيل جديد يتقن فن المالوف بكل طبوعه ونوباته، ويخلق قاعدة جديدة تؤمن بما تركه الشيوخ وتمشي على خطى أعمدة المالوف، وهو اقتراح مشروح كنت قد قدمته للسلطات المكلفة إلا أنها لم تلق أي ردود، وهو الأمر الذي كنا نطمح لإقامته بدءا من تعليم أبجديات طابع المالوف الفرقاني، إلا أن شبح الاندثار والزوال قائم في غياب مدارس متخصصة، لأن المالوف قاطرته تجاوزت مرحلة الانطلاقة، ولأن جمهوره متواجد يحميه ويتفانى لسماعه ليبقى التحدي الوحيد هو جذب الشباب للاستماع إليه والحفاظ على تواصله في ظل الزخم الفني الذي يغزو المجتمع الجزائري خصوصا والعربي عموما. ماهي نظرتك لمهرجان المالوف، وما رأيك في عودته من جديد؟ المهرجانات تعطي الفرصة أيضا للفنانين المحليين وللجمعيات الثقافية الفنية، وهنا يمكننا القول أن خشبة المسرح يعتليها أقلية نخبوية تقدم نظيفا عريقا، حيث لابد أن يكون الأداء وفق مقاييس المهرجانات الدولية، فالمسرح يحتاج إلى أشخاص قادرين على تأدية عروض راقية، إذا لابد على الشباب العمل بروية والصعود بطريقة تضمن اكتساب الخبرة. كيف يرى عدلان واقع الأغنية الأندلسية عموما والمالوف خصوصا؟ واقع الأغنية الأندلسية يبشر بالخير دائما، لأننا دائمي الاكتشاف للأصوات الواعدة والتي ستستلم مشعل الفن الأصيل في هذه المدينة التي تتنفس الفن، فضلا عن وجود شخصيات عريقة تركت بصمة عميقة في نفس كل ساكنة الدولة الجزائرية، ما جعل جيلا بأكمله يستكمل المسيرة والإبقاء على هذا الفن العريق والحفاظ عليه من الزوال.