مرت مؤخرا، 22 سنة على وفاة المفكر المنسي حمودي بن ساعي، الذي يصفه الكثير ب "أستاذ مالك بن نبي"، وهذا باعتراف هذا الأخير الذي ذكره بالاسم في مذكراته وبعض مؤلفاته، كما أهداه كتابه الشهير "الظاهرة القرآنية"، يحدث هذا في الوقت الذي يجمع بعض العارفين بحياة حمودة بن ساعي على أنه عاش غريبا ومات غريبا ولا يزال غريبا، في الوقت الذي لا تزال التساؤلات مطروحة حول مصير مخطوطاته وسط توجيه اتهامات للأستاذ فضيل بومالة. رغم مرور 22 سنة كاملة على رحيل المفكر حمودة بن ساعي في أجواء وصفها الكثير بالمحزنة والمأساوية، خصوصا وأنه واجه ظروفا صعبة خلال فترة الاستدمار وعاش التهميش بعد الاستقلال، ما جعله يفضل خيار العزلة والانزواء، وهو الذي درس في فرنسا وكان محل إشادة العلماء والمفكرين وحتى المستشرقين. ورغم ندرة الندوات والملتقيات التي أقيمت حوله أو باسمه، إلا أن الحضور سرعان ما يطرحون الكثير من التساؤلات حول مسار ومتاعب حمودة بن ساعي الذي طاله التهميش طيلة حياته، رغم أنه من خريجي جامعة السوربون في النصف الأول من القرن العشرين، وعرف بنظرته الاستشرافية، وعاصر الكثير من المفكرين والمستشرقين، على غرار أندري جيد وماسينيون وجول بول سارتر وغيرهم، كما نال اعتراف الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي اعتبره من أنجب تلامذة جمعية العلماء المسلمين الذين درسوا بفرنسا. إذا كان الكثير قد تعرف على حمودة بن ساعي، بفضل حصة "الجليس" التي كان يبثها التلفزيون الجزائري خلال تسعينيات القرن الماضي، حيث اكتشف المشاهدون والمهتمون رجلا طاعنا في السن، يعاني في بيت أشبه بالكوخ، خلال زيارة قام بها الصحفي السابق فضيل بومالة، وقد بثت تلك الحصة أياما قليلة قبل وفاته، إلا أكثر أن ما يطرح من تساؤلات في هذا الجانب هو الاستفسار عن مصير كتبه ومخطوطاته التي لم تعرف طريقها إلى النشر، وحمّل البعض المسؤولية للإعلامي الأسبق فضيل بومالة، الذي وعد حسبهم بطبع مخطوطات بن ساعي حين استضافه في حصة "الجليس" التي بثت في التلفزيون العمومي ربيع عام 1998، وهذا قبل أيام قليلة عن وفاته، فيما حاول البعض الآخر تبرئته، واعتبروه بأنه كان عنصرا مهما في إخراج الأستاذ مالك بن نبي من دائرة التهميش. وفي هذا السياق، علمنا من بعض الأطراف أنها اتصلت هاتفيا بالإعلامي فضيل بومالة، داعين إياه إلى إعادة مخطوطات بن ساعي، بغية إيجاد الأرضية المناسبة لنشرها، إلا أن بومالة نفى حسب ذات المصدر أن تكون بحوزته، ورد على كل من يتهمه بالدليل. تشبه حياة محمد حمودة بن ساعي، حياة عدد من المثقفين الجزائريين الذين عانوا الإقصاء والتهميش، فهو مثقف غير معروف لدى عامة الناس، بل حتى في أوساط المثقفين، رغم أن مالك بن نبي اعتبره في مذكراته التي صدرت بعنوان "العفن" بمثابة أستاذه وأهداه كتابه الشهير "الظاهرة القرآنية". وقد تنبأ له الشيخ الإبراهيمي بهذا المصير التعيس، فقال له سنة 1950 حين التقى به في باتنة "إنك عالم، لكن ينقصك فن التصرف مثل الشيطان" فنصحه بمغادرة الجزائر. والواضح أن حمودة بن ساعي ولد في ظروف لم تخلف له سوى المتاعب والمأساة، فرغم احتكاكه بخيرة علماء الأمة، على غرار عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي ومالك بن نبي، وتعرفه على فلاسفة وأسماء ثقافية وسياسية ثقيلة في الجزائر وخارج الوطن، إلا أن حمودة بن ساعي عاش مغمورا ومعزولا في بلد تنكر كثيرا لعلمائه وأعلامه، بدليل نهايته المأساوية، فقد مات دون أن يحقق أمنيته في الحصول على مسكن اجتماعي، ولا على منصب عمل يحفظ له كرامته ويعزز مكانته الفكرية والاجتماعية، لتختفي مجمل مخطوطاته وكتاباته التي لم تعرف طريقها إلى النشر رغم الوعود المقدمة له من بعض الأطراف، وهو أمر طبيعي لرجل تناسوه في حياته ونسوه تماما منذ وفاته عام 1998، وهو نفس المصير الذي عرفه شقيقه صالح بن ساعي الذي يعد أول مهندس زراعي في الجزائر، وأول من تنبأ بجفاف دول الساحل، لكنه مات في صمت بمدينة القنيطرة المغربية. يعد الدكتور أحمد شنة من الذين حاولوا استعادة الذكريات مع الفيلسوف الراحل حمودة بن ساعي (1902-1998) بكثير من الحنين والألم، بناء على لقاءات ومحاورات جمعتهما قبل نحو 27 سنة في مدينة باتنة، وهو الذي قارب التسعين عاما وقتها، وقال في هذا الجانب: ".. رغم أنها كانت لقاءات قليلة، إلا أنني تعلمت منها الكثير"، مضيفا بأنه لم يكن حمودة بن ساعي شخصية علمية جزائرية عادية، فهو حسب قوله الأستاذ الكبير الذي تخرّج على يديه نخبة من كبار علماء الجزائر ومفكريها، وفي مقدمتهم مالك بن نبي، وهو المفكر الجزائري الذي دوّخ الساحة الثقافية والفكرية الفرنسية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وهو من قال عنه الشيخ عبد الحميد بن باديس، إنه من أفضل طلبة جمعية العلماء المسلمين الذين تنقلوا إلى فرنسا.. وهو الذي وقف له الأديب الفرنسي أندري جيد إجلالا وتوقيرا، وأرعب المستشرق المشهور ماسينيون، وهو المجاهد الذي كسّر الاستعمار الفرنسي ظهره من شدة التعذيب، وعاش بالآلام إلى نهاية عمره. أكد الدكتور أحمد شنة بأن أستاذ مالك بن نبي عاش فقيرا معدما، بعد أن سدت في وجهه الأبواب، مضيفا أنه ولأسباب ظلت مجهولة، فرض على نفسه عزلة تامة، امتدت لنحو خمسين عاما، بدأت منذ السنوات الأولى للاستقلال، وامتدت إلى آخر يوم في حياته نهاية التسعينيات، كان فيها نادر الظهور في الملتقيات والأماكن العامة، شديد الابتعاد عن وسائل الإعلام. وختم الدكتور أحمد شنة قوله في منشور سابق، بأن الذي يحز في النفس، وهو يستحضر تفاصيل لقاءاته به، أن الرجل عاش غريبا ومات غريبا، ولا يزال غريبا في الأوساط العلمية والإعلامية، إلا من عاصره عن قرب، أو سمع به صدفة من أفواه بعض أصدقائه ومعارفه في باتنة، وهو ما يستوجب حسب أحمد شنة على الباحثين والمؤسسات العلمية والثقافية المبادرة إلى نفض الغبار عن سيرة هذا الرجل، ويبحثوا عن مؤلفاته وآثاره، لجعلها في متناول الناس، قبل أن يعبث بها الزمن، مثلما عبث بالكثير من الآثار والإنجازات في الماضي والحاضر