وإن تراجع فن القص عربيا في السنوات الماضية من حيث الكتابة والنشر والقراءة، فقد عاد ليحتل مكانة بارزة في تصديه للواقع العربي المتشابك اليوم. ما فتئت الأديبة التونسية بنت البحر، حفيظة قارة بيبان، تراكم تجربتها في الكتابة إصدارا للمؤلفات وتنويعا أجناسيا فتنقلت من القصة القصيرة "الطفلة انتحرت"، "في ظلمة النور" إلى الشعر "رسائل لا يحملها البريد" ثم الرواية "دروب الفرار"، "العراء" وأدب أطفال "سلسلة حكايات بنت البحر" واليوميات "النجمة والكوكوت". ويبدو أنّ الشوق قد أعادها من جديد إلى الحبيب الأوّل فأصدرت عن دار نقوش عربية مجموعتها القصصية الثالثة التي حملت عنوان "قهوة إكسبريس" واشتملت على ثلاث عشرة أقصوصة كانت "قهوة إكسبريس" إحداها. استغربت أوّل ما وقع الكتاب بين يديّ من عنوانه غير المألوف لدى بنت البحر، بل وغير المتوقع منها. فالعارف بأسلوب كتابتها والناظر في عناوين كتبها السابقة يتأكد لديه خروج عنوان مجموعتها الثالثة عن سمة ثابتة في جماليات الكتابة لديها تعلي من شأن الصورة الإيحائية وتحرص على المجاز وتسعى إلى المزاوجة بين السردي والشعري. ولو اقتصر الأمر على إثبات "قهوة إكسبريس" عنوانا لأقصوصة داخل مضمومة فحسب لما لفت ذلك القارئ كثيرا، أما وهذا العنوان تصدّر المجموعة بأكملها فهذا يدعو إلى التساؤل حقا. والحق أنّ ملامح المجموعة العامة من حيث المضامين والدلالات تتقاطع جميعها مع القهوة الإكسبريس من حيث الاقتراب من الفضاء العام، واستحضار الشوارع والساحات والمقاهي في مسالك السرد والتخييل. فأغلب أقاصيص المجموعة مشحونة بمضامين تتصل بالأحداث والقضايا والمشاغل التي تعيشها تونس منذ 2011 مثل الهجوم على الفنانين والمعارض الفنية في قصة "سرقوا إلهي"، التعصب والتطرف وانجرار الشباب وراء التنظيمات الإرهابية في "أجمل الفتيان"، ازدياد الفقراء فقرا وانتشار آفة المخدرات في قصة "التحقيق"، انتشار عقلية تحريم الفنّ في "المرآة"، وغيرها من القضايا التي تصدت لها كل قصة على حدة.لكن هناك قصتين بدا عالماهما أكثر اتصالا بفترة ما قبل 2011 هما "الناظور" و«أوراق"، والجامع بينهما استثمار المؤلفة تقنية المفارقة وسيلة لنقد الواقع القائم والسخرية من النظام. في الأولى نجد تقابلا مضحكا محزنا بين احتفال الدولة تطبيقا لأمر رئاسي بسنة الشباب (2010) من جهة، والوضع البائس الذي يعيشه الشباب والذي أودى بأحدهم إلى سجن برج الرومي من جهة ثانية. أما في النص الثاني فترسم الراوية لوحة عن الواقع الثقافي في تونس، إذ تستغل دور الثقافة لغير مهمتها الأولى فتكترى لإقامة معرض تجاري، ويوم الافتتاح يدخل أشخاص كثيرون إلى دار الثقافة يسبقهم المسؤولون والطبالون. وفي المقابل لا يستطيع كاتب أربعيني العمر نحيل القامة أن يدخل الدار لاسترداد أوراق أدبية له يجب عليه أن يودعها فورا لدى ناشر مشرقي وعده بنشرها في كتاب، ولم يبق على سفر الناشر سوى ساعات قليلة.في المقابل تشتمل المجموعة على أقصوصتين تكادان تكونان الوجه الآخر المشرق للعالم القصصي الذي تغلب عليه العتمة. هاتان القصتان هما "حبيبة"، و«العسلة". في الأولى الشخصية الرئيسة هي الجدة التي ترمز إلى الماضي السعيد البعيد، أما الشخصية الرئيسية في الثانية فهي الحفيدة الرامزة إلى المستقبل الحيوي المتفائل المتطلع إلى الفعل والإضافة. لكنّ إشراق الماضي محفوف ببعض عتمات الحاضر وحيوية المستقبل وتفاؤله مكتنفين ببعض هواجس الحاضر ومخاوفه.المعنى السالف ذكره بنته الكاتبة سرديا أحسن بناء في أقصوصة "قهوة إكسبريس". فهذا النص هو بمثابة مونولوغ طويل ممتدّ نستمع فيه إلى هواجس امرأة تنتظر حبيبا في أحد النزل وترتشف في الأثناء قهوة إكسبريس. ورغم أنّ المرأة جالسة ثابتة في المكان، فإنّ الحركة والصراع يعتملان في دواخلها قلقا وحيرة واستعجالا لقدوم الحبيب الذي تأخر عن موعده، وكانت تحاول أن تسكت الجوع إلى اللقاء بمراقبة الداخلين إلى النزل والخارجين منه وقراءة ملامحهم. وما لبث الحبيب أن بعث برسالة إلى أمه عبر الجوال يعتذر عن القدوم لالتزام شدّه عن الموعد. وتكون مفاجأتنا صادمة في قفلة الأقصوصة، إذ نعلم بأنّ الحبيب المنتظر ليس سوى ابن الراوية. لكنّ هذه المفاجأة نفسها لا تكشف كل شيء. فالقصة توهمنا بأنّ مدارها الأساسي هو امرأة تنتظر ابنا وهي قلقة لتأخره في القدوم، ولكن في الحقيقة ما هذه إلا القصة الظاهرة وقد عرف موباسان الأقصوصة بأنها سرد يقدّم حكاية ليخفي حكاية أخرى تجلّى جزء منها في الخاتمة المفاجأة، لحظة الكشف، إلا أنّ جزءا آخر أساسيا لا تنبّه إليه القاصة قارئها بمفاجأة قنبلة بل تعوّل على ذكائه وحسن قراءته ما بين سطور النص وما فوق سطحه معا. فثمة في النص حركتان: حركة النفس وحيرتها، وحركة العين وتجوّلها في أنحاء النزل وتطلعها من وراء النوافذ إلى الشارع الكبير. إننا إزاء انتظارين، انتظار مصرح به للحبيب الابن، وانتظار آخر موحى به هو للقادم المجهول إلى النزل وإلى الشارع، وإلى مدينة تونس. إنّ الحبيب الابن الشاب الطالب الجامعي الشبيهةَ سحنتُه بسحنة شي غيفارا ليس في الحقيقة إلا رمزا لجيل كامل من الشباب. وبذلك يلتحم بعدا القصة في آخر النص داخل أفق رمزي أوسع وأعم، فيغدو انتظار الراوية لحبيبها الابن انتظارا لجيل كامل من الشباب، جيل الثورة المرمي في قلب العاصفة. هذه المضامين المستغرقة في الهم العام قدّمت في نصوص قصصية تميّزت بخصائص فنيّة أضفت عليها طابعا أدبيا رفيعا وأكدت للقارئ قدرات الكاتبة السردية والأدبية وإيمانها بأنّ الرهان الإبداعي الجمالي هو الرهان الأول والأعلى شأنا في الكتابة. وقد كانت هذه الخصائص جسر التواصل بين "قهوة إكسبريس" وسائر كتابات بنت البحر. ويمكن أن نجمل هذه الخصائص في: الحرص على عدم السقوط في الخطاب التقريري السياسي المباشر رغم اتصال المضامين اتصالا مباشرا بالشأن السياسي، وشعرية العالم القصصي فالشعر ليس في لغة القص فحسب بل في الأطر وحركات الشخصيات أيضا، واستثمار الثنائيات لخلق صور أكثر تعددا وتلاحما بين المتناقضات، وحضور مدينة بنزرت لا بوصفها مرجعية جغرافية واجتماعية وإنما بوصفها عنصرا جماليا مولدا للدلالات ومحددا للمواقف القصصية.هذه الخصائص تضافرت لتميّز أقاصيص "قهوة إكسبريس" بطاقة فنية عالية تنتصر بالفنّ للفن رغم قساوة العالم المحيط ورغم بلادة الذهنيّة العامة وتنامي الأصوات المعادية للإبداع والجمال. لذلك فمهما علا السواد أفق العالم القصصي وادلهمّت سماء المدينة، فإنّ القارئ واجد في كل ذلك متعة وفسحة للأمل. ذلك أنّ هذه الأقاصيص تدفع إلى الحلم وتستنهض في قارئها ملكات الإبداع، باعثة فيه اليقظة بالمفهوم الرومنطيقي: اليقظة للذات وللطبيعة وللوجود وللإنسان، ذلك الذي ينام أحيانا فتكون قراءة الأدب سبيلا إلى انبعاثه. محمد آيت ميهوب