يقول كوماتسو، أحد الشخصيات في رواية موراكامي الهامة 1Q84 لصديقه تنغو على لسان أرسطو: "إنّ غاية الأشياء هي الخير، وبعبارة أخرى، الخير هو الغاية التي تبتغيها كل الأشياء". ويسأله صاحبه: "ماذا يتعيّن على أرسطو أن يقول بشأن الهولوكوست؟"وبعد ابتسامة واسعة يرد الأول: أرسطو هنا يتحدث أساسا عن أشياء من قبيل الفن والمنح الدراسية والصنائع". انطلاقا من هذا المبدأ فإنّ الغاية من إبداع الفن هو الدفاع عن الخير وحظوظه في الوجود مقابل الشر والسوء وأشكال السلب.وقد يكون أغلب ما يُقرأ من آداب وما يشاهد من أفلام أو مسرحيات وما يسمع من موسيقى له هذا النزوع من قبل صنّاعه نحو مفهوم الخير والجمال وما يوطّد العيش الكريم في كنف عالم يتيح للممكن الإيجابي أن يستثمر قدرته في الوجود والبقاء. غير أنّ هذا لا يشمل جميع الفنون مع الأسف. فإننا نشاهد أعمالا "فنية" تضج بالعنف والتقتيل ومشاهد الرعب والترهيب مع ما يصاحب هذا من قتامة في المشاهد بحيث تطغى الألوان الداكنة السوداوية على الصورة المشاهدة، وإذا كان اليونان قديما في مسرحهم الذي يظل عظيما، يستنكفون تصوير مشاهد القتل والدماء مراعاة لذوق جمهورهم فإنّ هذا "المبدأ" أو "الخيار الجمالي" إن كان ممكنا التعبير عنه بهذا الاصطلاح لم يعد يُنتبه إليه كثيرا ابتداء من المسرح الذي تلا المرحلة اليونانية وصولا إلى الآن. سأتحدث عن نموذجين هنا بشكل مختصر، الأول مسرحي، وهو الأساس الذي تنطلق منه بالطبع مجمل هذه الكتابات وأقصد به العرض العراقي "خريف" الذي قدم في مهرجان المسرح العربي في دورته التاسعة بوهران، والآخر سينمائي وأقصد به فيلم دارين لين بوسمان-ومن معه- وهو Saw بجميع أجزائه. يشترك العملان في تقديمهما لمشاهد العنف الجسدي بشكل مباشر وشديد القسوة بعيدا عن أي مفهوم للخير وللجمال الذين يبدو أن مقولة أرسطو لن تجد مكانها لتطبيق أحدهما في أي موضع منهما. أثار الأول اعتراض العديد من المهتمين بالمسرح، ولاحظوا أنّ المبدع اقترب من تمثيل العنف في السجون والمعتقلات بشكل يكاد يكون حرفيا لما تسجله الأعمال الوثائقية والمواد التاريخية، وتم التنبيه إلى أنّ العين تنفر في الكثير من المواضع من مشاهدة الأجزاء الممثلة للقسوة خاصة المبالغ فيها وتَزْوَرُّ عن العرض إلى أن ينتهي، بل قد يصاحبها إغلاق للأذنين حتى لا تُسمع أصوات الكي والتهشيم والضرب الهمجي. وفي Saw يبدو من الصعب أيضا إيجاد مبرر جمالي لطغيان هذه القساوة في المشهد. تكرار مشاهد مثل تقطيع أوصال امرأة فاتنة الجمال، أو قلع عين رجل بآلات مسننة، أو بقر بطن من أجل إخراج أجزاء من الأحشاء ووضعها في ميزان يتطلب وزنا معينا حتى يتم فتح الباب الموصول به !! في هذا الفيلم عبر أجزائه، يقوم البطل بالتخطيط لقتل جميع خصومه وبطرق فظيعة لكنها في غاية الدقة والتنويع والإدهاش أيضا. يضع الرجل نفسه في مكان السلطة العقابية، ويجد الجميع أنفسهم أمام عقل باذخ المكر، يبقى مكره حتى بعد موته ويدفع من حوله أثمانا باهظة لا يبدو أن الجميع يستحقون دفعها. وقد سبق لي في كتاب "العين والمدى" أن أوردتُ أنّ غرض الفن حسب هيغل أن "يعظ الإنسان" وقد تكون الموعظة هي الهدف "الخيّر" من العملين، ربما لتنبيه "الأخيار" لما يحدق بهم من شر "الأشرار، وأنه شر لا ينتهي إلاّ ليبدأ أشد وأعنت وأفظع. غير أنّ "الوسيلة" و"الرؤية" قد تختلف من مبدع إلى آخر، وتاريخ الأدب العربي يحكي أنّ المازني كان قد دخل إلى قسم الطب دارسا، ولكنه لم يستطع أن يواصل فيه بسبب مشاهد الدم والجثث والأوصال المقطوعة في الحوادث واتجه إلى الأدب شاعرا وقاصا حتى وإن حكى عن الموت والعذاب والقتل فبرؤية "مبدع" لا بتوصيف صحافي حوادث. إنّ الخير، كل الخير في ظنّي، أن يشيع المسرح والسينما والفنون جميعا مظاهر المحبة والجمال والخير بقدر ما يصوّر التعاسات والمصاعب والانتهاكات حتى لا يتطابق الفن مع الواقع الشائه أصلا، فنكون أمام نسخ مكررة عنه، وحتى لا يكون –كما في Saw-الخيال أقسى من الواقع وأفظع منه وتغرق اللمحات الجمالية في لجة عميقة من الكدر والسوداوية والبشاعة.