من خلال استقرائي للإشكاليات المطروحة في الساحة الفنية، وجدتني أتشعب بين عدد من المواضيع، التي تبدو لأول وهلة لا علاقة لها ببعضها البعض، غير أن الواقع و بعد تمعن دقيق فيما آلت إليه حالنا «الثقافية» على العموم و «المسرح» بصفة خاصة. نلحظ بما لا يدع مجالا للشك أن ثمة علاقة وطيدة بين الإشكاليات هذه فيما بينها، كما أن لها صلة لامتناهية بغيرها من الإشكالات الأخرى غير الثقافية، لذلك نقول -من باب طرح الرأي- أن المشكل ليس في ضخامة الإنتاج (مسرحية بعدد من الممثلين) أو ضآلة الإنتاج (مونودراما مثلا) ، فقد بدأ المسرح كشكل فني مع الإغريق القدامى (ق 6 قبل الميلاد) بممثل وحيد على الخشبة (ثيسبس أول ممثل مسرحي) و كانت تصحبه الجوقة (الأوركيسترا - الموسيقى و المؤثرات الصوتية) و كان رغم ما يبدو أنه ضئيل فقد كان له جمهور عريض قد لا يخطر ببال الممارسين المحدثين للمسرح، بل و كان هذا الجمهور الذي يتعدى عدده أحيانا ال60 ألف و كان هذا الجمهور يحجز لنفسه مكانا مع الساعات الأولى من فجر النهار من أجل مشاهدة عدد من العروض المسرحية، ثم تطور مسرحهم إلى أن وصل عدد الممثلين على الخشبة 3 ممثلين في عهد صوفوكليس، مرورا بممثلين اثنين فقط، و المغزى من سرد هذا التطور التاريخي هو أن عدد الممثلين على الخشبة لا يفسد للود قضية، ذلك أن المسرح الإغريقي و كثير من الحقب المهمة في تاريخ هذا الفن كان فيه تقارب كبير بين الدراما و روح العصر الذي يعيشه المجتمع، فقد كان الفن بحق مرآة للمجتمع، و لنأخذ مثالا آخرا أقرب لمجتمعنا؛ لاحظوا معي أن الحلقة التي تقام في الاحتفاليات التقليدية عندنا (الوعدة) تجد لها عدد كبير من الناس يتحلقون بذلك القوال و تجدهم يتفاعلون مع يرويه من قصص و ما يقوله من حكم، بل تجدهم يدفعون له مقابل مشاهدتهم دراهم لم تستطع مسارح القاعات الإيطالية عندنا أن تجمع جزءً و لو بسيطا منها، إذن لابد للنظر إلى الإشكال من جوانبه المختلفة، و لا يجب علينا أن نحجب الشمس بالغربال. لنتناول الأمر من زاوية أخرى ، و لنأخذه من زاوية ما يريدون تسويقه بأن المشكل في النصوص؛ أنا شخصيا أرى أن الأزمة أزمة «لصوص» و ليست أزمة «نصوص» لأنه من غير المعقول أن أربعين مليون جزائري لا نستطيع أن نستخلص منها عشرة كُتاب عى الأقل، فالواقع يقول بغير ذلك، كُتاب المسرح في الجزائر العميقة كثيرون و لكن.. التهميش الذي تفرضه ثلة من المحيطين بالقصعة الفنية هو ما يصعب الأمر من أجل بروز كُتاب ذوو أقلام قوية. إن «المنظومة الثقافية» في البلاد قد ولَّدت لنا أشرارا تمركزوا في «نقاط» ثقافية عديدة و صاروا الأنموذج الذي يُحتذى به من قبل «المجتمع الفني» على أساس أن هذا الأنموذج هو الحقيقة المطلقة، و هذا ما جعل الفن الجاد يتقهقر أمام آلة تفكير تحد من التفكير نفسه و تقتل الإبداع و تجعل المبدع الحقيقي و هو يحاول إيجاد موقع لنفسه يتراجع أمام عبثية الفساد الذي يحيط بالفن. ثم إن هناك زاوية أخرى أرى أنها لا تقل أهمية عن سابقاتها و هي ثقافة «الدعم» والأسلوب الذي تتم به و التي خلقت لنا جيلا لا تتحرك ملكاته الفنية إلا بعد أن ينال مقابلا لذلك، و إن كان طلب الرزق ليس عيبا في حد ذاته، و لكن أيضا لا بد لهذا الرزق أن يكون له مقابل فكري يرتضيه الجمهور لنفسه، لأنك في آخر المطاف تتعامل مع زبون الذي هو جمهورك و لا بد من إرضاءه حتى تستطيع أن تستميله إليك و تقتطع من جيبه ما تستحق بعيدا عن «الاتكالية» التي نخرت بخزينة الدولة و صُرفت أموالها في جيوب من لا يمتون بصلة إلى الفن و الإبداع.. ثم إنه و من باب المفاضلة أن لا نفصل الإشكال المطروح آنفا عن بقية مناح الحياة سواء الاجتماعية أو التاريخية أو الاقتصادية أو حتى -و من باب أولى- السياسية، لأن الثقافة هي زبدة المجتمع، هذا إذا لم أقل أنها هي المجتمع و ما ينتجه من سلوكات، و هنا تحضرني كلمة لرئيس الوزراء البريطاني عندما طُلب منه أن يستقطع من ميزانية قطاع الثقافة من أجل تمويل الحرب (أثناء الحرب العالمية الثانية) فقال: «لماذا أدخل في حرب إذن ما لم تكن الثقافة هي محل للدفاع» و الحراك الثقافي في بلادنا يحاول أن ينأى بنفسه عن بقية شُعب الحياة، فلا هو استطاع أن يستلهم من مجتمعه ما يسد به رمقه الفني، و لا المجتمع استطاع أن يرى فيه نفسه، و صارت هذه المعادلة لها حل يرتسم فيه منحنيان يتوازيان حيثما حلا أو ارتحلا، و هذا الكلام يؤكده الواقع الذي نرى فيه هجران رهيب لقاعات العرض المسرحي، و لكم أن تسألوا بعض الفرق التي تجول البلاد و تحاول أن تقدم عروضها المسرحية فتجد نفسها تتفاعل مع مقاعد فارغة تردد صدى أصواتها الصادحة الجدران، و لعله في أحسن الظروف تجد نفسها مع حارس المسرح الذي ينتظر نهاية العرض بفارغ الصبر من أجل أن يغلق الباب. في الأخير يسوقنا الحديث لطرح سؤال مفاده؛ هل من مخرج؟؟ و الإجابة؛ إننا لا نقدم للقارئ نظرة سوداوية بقدر ما نحاول وضع أيدينا على الجرح، فتفاؤلنا كبير، و لهذا التفاؤل ما نأمله و نتطلع أن يلتفت إلييها القائمون على هذا القطاع الحيوي، على رأس هذه الشروط أن يعود الفن و الثاقفة على العموم ليخرج من رحم المجتمع، و إنما الهيئات الثقافية من أعلاها (وزارة الثقافة) إلى أسفلها (المديريات، دور الثقافة و حتى الجمعيات والتعاونيات الثقافية) هي وسيط يتكفل بتنظيم العلاقات داخل أطر المنتوج الثقافي و الفني.. و من هنا يمكن لنا أن نبدأ في إنشاء منظومة ثقافية كاملة متكاملة.. ثم نستمر في مراحل متقدمة في فك الخيوط المتشابكة لهذه المعضلة..