بالرغم من تطور وسائل الاتصال وتنوعها، وظهور تغيرات اجتماعية عديدة في مجتمعنا ، إلا أن شخصية « البراح « لا تزال متواجدة اليوم وبقوة في العديد من المدن والقرى بولاية البيض، لاسيما لدى كبار السن. حيث لا تزال هذه الشخصية تمثل رمزا من رموز التقاليد الشعبية الراسخة ، والاستغناء عنها قد يصبح صعبا في كثير من الأحيان، حسبما أكده الكثيرون من أبناء وشيوخ منطقة البيض، فالبراح بإمكانياته البسيطة استطاع طوال السنوات الماضية أن يفرض نفسه من خلال الخدمات الدعائية و الإشهارية التي يقدمها للمواطنين، كالإعلان عن الوفاة و البيع والشراء ، وحتى الإعلان عن الأشخاص المفقودين و الأشياء التي ضاعت من أصحابها، وغيرها من الأمور التي يرغب الناس دوما في الإعلان عنها. فيكفي أن تزور الأسواق الشعبية أو الأزقة المتفرعة بالمدن القديمة على وجه الخصوص حتى تلتقي « البراح « بصوته القوي الذي يخترق الأسماع ويشدّ الانتباه بطريقة غريبة جدا، رغم ضجيج المارة والمركبات، فبمجرد انبعاث هذا الصوت حتى تجد الجميع ينصت مترقبا الجديد الذي يحمله لهذا اليوم ، و« البراح « كما قال لنا بعض كبار السن هو بمثابة الصحيفة التي تطلع الناس عن جديد الأحداث على مستوى المدينة أو القرية، فالإعلان عن الوفيات يكون دوما على رأس الأخبار التي ينقلها البراح يوميا ، وغالبا ما يقدم المزيد من التفاصيل كموعد الدفن وسبب الوفاة ، كما أن البحث عن المفقودات يحتل هو الأخر حيزا هاما من نشاط البراح ، وبحسب أحد المواطنين من بوقطب، فإن الأمل في العثور على هذه المفقودات يبقى واردا دائما، لاسيما في المدن الصغيرة والقرى . أشياء ثمينة ومبالغ مالية تعود إلى أصحابها وفي هذا السّياق قال أحد المواطنين إنه تم مؤخرا إعادة أشياء ثمينة جدا إلى أصحابها بفضل البراح ، منها مبلغ مالي يقارب ال 100 ألف دينار ضاعت العام الماضي من شخص كان متجها نحو سوق الماشية بإحدى مدن الولاية ، حيث وبعد يومين من إعلانات» البراح « عبر الإحياء والأزقة تم العثور على المبلغ المفقود وإعادته لصاحبه ، كما روى لنا شخص آخر عن القلادة الذهبية التي أضاعتها إحدى السيدات وتمكن البراح من المساهمة في العثور عليها في يومها ليعيد بذلك البسمة والفرحة إلى تلك السيدة التي قيل لنا أنها كادت تُجنّ لأن القلادة لم تكن لها، إلى جانب العديد من الأحداث والقصص الأخرى الكثيرة والمتعددة التي رواها لنا أكثر من مصدر، و التي تبرز جميعها الدور الكبير الذي يلعبه ولا يزال يلعبه «البراح « . مكبرات الصوت والسيارات لكن ما تجدر الإشارة إليه أن « التبراح» لم يعد يتم بالمجان أو بمبالغ رمزية كما كان الحال عليه سابقا، بل إن العملية أصبحت تتم وفق مبالغ معينة ومحددة بعضها ثابت ومعروف لدى الجميع وبعضها الآخر يتم التفاهم فيه مع المواطن المعني، وفي كل الحالات فإن ميزة الرضا تكون دوما هي السمة البارزة في علاقة البراح بالمواطنين الراغبين في خدماته، ولعل اللافت للانتباه أيضا في شخصية « البراح « الحالية حسب ما رأيناه ولاحظناه على أقدم براح بمدينة بوقطب المتمثلة في شخصية عمي حميري الحاج بلعيد هو إصراره على ممارسة نشاطه بنفس الطريقة التي كان يعرف بها قديما كالسير على الأقدام مثلا والاعتماد غالبا على الصوت الطبيعي دون اللجوء إلى مكبر الصوت الذي يملكه عكس البقية الذين أصبحوا يعتمدون على مكبر الصوت والسيارة ، والسبب كما أخبرنا أحد البراحين هو التوسع الكبير للنسيج العمراني الذي شهدته المدن، فالبراح كما قيل لم يعد بإمكانه تغطية كامل تراب المدينة مشيا على الأقدام لذلك تجده يستعين بالسيارة ليتمكن من تأدية مهمته على أكمل وجه وبسرعة البرق ، وإذا كانت شخصية البراح قد صمدت لحد الآن وتمكنت من الحفاظ على وجودها كشخصية أساسية وفاعلة أحيانا في تركيبة المجتمع عبر العديد من المدن والمناطق بولاية البيض وغيرها، فإن الحال قد لا يكون كذلك مستقبلا نظرا لعديد المتغيرات التي لحقت طبيعة حياة المجتمعات المحلية خلال السنوات الأخيرة ، فمثلا قضى التلفزيون وغيره من وسائل الترفيه والتسلية على شخصية « المداح « التي اختفت تماما من الأسواق والساحات العمومية سواء بمدن البيض أو غيرها، فإن كل المعطيات والمؤشرات توحي بأن شخصية البراح قد لا تصمد هي الأخرى طويلا أمام التطور الرهيب والمتسارع لوسائل الإعلام والاتصال المختلفة ، فقد يأتي يوم نجد فيه هذه الشخصية التي ألفها الكثيرون قد اختفت هي الأخرى من مجتمعنا لتصبح مجرد ذكرى أو صورة منتزعة من أرشيف عادات وتقاليد ذلك المجتمع العريق والتي بدأنا ومع الأسف ننساها أو نتناساها مع مرور السنين .