ما معنى أن تكتب رواية وأنت تعمل في جريدة؟ ، وهل يجوز لك أن تقحم الجريدة في قضية خاصة؟ ،ما السبيل إلى ذلك؟ انتابتني هذه الأسئلة وهذه الرغبات وأنا أدخل إلى الجريدة في ذلك الصباح الربيعي البارد من يوم 02 أبريل 1977. ماذا يعني هذا التاريخ وطنيا؟ ولماذا اخترته؟ هل هي الصدفة أم بقصدية مسبقة؟ يصادف مرور عشرين سنة على استشهاد والدي في سجن السواني، بأقصى الغرب الجزائري. يومها كنت حزينا لأني كنت أرى أمي وهي تركض يوميا، من البلدية الى الشرطة، الى منظمتي الشهداء والمجاهدين، إلى مقر الدرك الوطني، حتى عمي عبد القادر الشمبيط، لأنه كان عارفا ببعض الحقائق، بحثا عن مساعدة لتجد مكان دفن والدي ورفاته، لتضع له قبرا يدفن فيه وشاهدا تقف العائلة أمامه للترحم عليه. لم يكن الأمر بسيطا. ظلت تبحث بلا جدوى، حتى وفاتها، على روحها الرحمة والسلام. جاءتني يومها فكرة الكتابة عنه، في زمن لم يعد معنيا لا بالشهداء ولا بالتاريخ إلا كسلسلة من الخطابات الميتة التي لم تعد تقنع أحدا. شباب يعيش مأساته الوجودية خارج تاريخ بلاده الذي سجنه الورثاء الجدد واستولوا على مخياله وإمكاناته التأويلية، ولم يقبلوا إلا بتأويلاتهم التي تخدم مصالحهم، وتخفي سرقتهم للتاريخ. حبا في أمي واعترافا بعذاباتها، فكرت أن أسترجع تاريخ والدي. وأن أجده حتى ولو اضطررت إلى ذلك أدبيا. اعتمدت على شهادات بعض الأهل في فرنسا وأخته المرحومة عمتي مغنية، والذين رافقوه في المعتقل، وهو النقابي المقاوم مثل المرحوم عمي بوحفص. كنت أملك من وثائق استشهاده ما يعينني على الكتابة. لكن ما دخل الجمهورية في الرواية؟ الفكرة لم تأت من الفراغ. كنت في أرشيف، جريدة الجمهورية. أفتش في الوثائق القديمة لأكتب شيئا عن الثورة التحريرية الجزائرية في سياق فكرة إعادة كتابة تاريخ الثورة الوطنية التي كان شعارها قد رفع عاليا في الحزب، وفي الجريدة. كلفني يومها رئيس التحرير بالتفكير في مقالة جيدة ولا تكرر ما قيل. لا شيء في رأسي إلا والدي لم يحض بأي اهتمام أدبي مني. استشهد وترك وراءه كل شيء معلقا مثل ساعة حائطية قديمة توقفت عقاربها ذات زمن لا أحد يدرى متى؟ باستثناء تجمدها على ساعة محددة وبعض الدقائق وقليل من الثواني. لم يترك والدي وراءه حتى قبرا يزار وقت الغبن. لقد ذهب بكله ولم يخلف وراءه إلا أصداء مقاومته التي حفظها أصدقاؤه في سجن السواني، وظلوا يرددونها وأوفياء لها حتى التحقوا به فرادى بعد سنوات. بدأت أبحث وفي رأسي رغبة قصوى في عدم تكرار الخطابات الجاهزة والسهلة. فجأة عثرت على وثيقة، صفحة، عن مقتل عبان رمضان منقولة عن عدد 24، بتاريخ 29 مايو 1958، من جريدة المجاهد الناطقة بالفرنسية، التي كان عنوانها مع صورة كبيرة له: Abane Ramdane est mort au champ d'honneur. لأدرك بعد زمن طويل كم أن تاريخنا كان يحتاج ليس فقط إلى إعادة كتابة، أو إعادة قراءة، أو إلى إعادة نظر كبيرة ومتفحصة، ولكن إلى شجاعة. بدأت ملامح مشروعي ترتسم. وبدأت أصعد وأنزل مستفسرا عما قرأته في الجريدة، وأسأل الأصدقاء الصحفيين من كبار السن، ورفيقا لي في حزب الطليعة الاشتراكية السري. ثم كتبت مادة عبان رمضان مرفقة بالأسئلة التي صاحبت قراءاتي، والغموض الذي رافق موته. حاولت أن أثبت بعض المعلومات، فعدت إلى الجريدة، لكني لم أجد أثرا للعدد. كتبت مقالتي بما توفر لدي من معلومات وسلمتها للقسم. في اليوم الموالي، عندما دخلت إلى الجريدة رآني رئيس التحرير واقفا مع مسؤول الأرشيف، فناداني لأصعد إلى مكتبه. قال وهو يبحث عن كلماته: لم ننشر مقالتك عن عبان رمضان، لأننا لا نريد مشاكل لا لك ولا للجريدة. أنت تعرف أن مقالة مثل هذه فيها الكثير من الصعوبات وتترتب عليها نتائج وخيمة. حاول أن تغيرها وتنزع فكرة عبان رمضان لأنها ثقيلة. أكتب عن والدك واعتقاله في السجن وكيف عانى ،ربما هذا أفضل، لأننا في عيد الاستقلال. نريد أن نتذكر لا أن يظن أننا نصفي حسابا ضد جهة من الجهات. التاريخ سيصفي كل شيء. كل كلمة كان يقولها كانت تطن في رأسي بقوة بشكل مخالف. كنت في عالم أخر. أعتقد أن رواية ضمير الغائب نشأت في خضم ذلك الرفض لأنه انعكس على كل شخصياتي وقتها. اخترت يومها، وبشكل تلقائي، لكتابة الرواية، فضاء جريدة الجمهورية بطوابقها من الداخل ومكاتبها وحتى رؤساء تحريريها و مدرائها، من حيث الشكل فقط في خلق النماذج البشرية. من يعرف المقر والبشر والعمال من مسؤولين وصحفيين ونساء التنظيف، يدرك بسهولة التقارب بين نظامي المكان الفعلي والمكان المتخيل. حتى الطوبوغرافيا العامة وتضاريس المدينة والعمارة والشارع الضيق وحركة الناس هي نفسها. تخونني ذاكرتي في الأسماء. مسؤول الأرشيف أسميته في الرواية ميمون ولا أدري إذا كان ذلك هو اسمه الحقيقي. لم يكن الأمر مهما لأني كنت واعيا بأن الأمر يتعلق في النهاية برواية ومتخيل وليس بحقيقية باردة ومجردة يمكن اختبارها. لقد اخترته من الجنوب بعفويته وصدقه ووفائه وفقره أيضا. أسميت المدير بلقاسم لأبعد الشبهة. كان في داخلي قهر كبير بسبب رفض مقالتي. لم أكن خائفا عليّ، لأني كنت طالبا جامعيا حالما بالذهاب بعيدا في هذا الخيار الأكاديمي. ولهذا لم تكن صورة المدير إيجابية جدا في الرواية. وأدخلت بطلي المهدي بن محمد في صراع مع المؤسسة لأنه رفض له القيام بتحقيق عن والده لأن مصيره كان شبيها بمصير عبان رمضان. بل وجدت في المقال عن استشهاد عبان رمضان مساحة مهمة من دراما التاريخ وقسوته. وسحبت بطلي باتجاه حياة هذا المجاهد الذي أغتاله رفاقه بسبب خلاف سياسي وإن غيرته كل شيء في البنية الروائية، لكن ظلال هذه الشخصية ظلت ماثلة في ذهني. أدمجت في الرواية قصة لابلويت La Bleuïte التي لم تكن إلا لعبة استعمارية ذهب ضحيتها المئات من الشباب المثقفين الذين انتموا إلى هذه الثورة، وكيف أن زوجة بطل الرواية وجدت صعوبة كبيرة في إثبات استشهاده لأنه لا قبر له لولا شهادات أصدقاء السجن الذين تضامنوا مع قصته وراحوا يشهدون بنضاله إضافة إلى وثائق فيديرالية الجزائريين بأوروبا التي انتمى إليها والدي في وقت مبكر. تحولت الجمهورية إلى بؤرة ومساحة لكتابة رواية ضمير الغائب (الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر). كلما فتحت اليوم هذه الرواية، شممت فيها عطر الجمهورية في السبعينيات. لأول مرة أكتب عن الفضاء الإعلامي وأنقله إلى جنس آخر هو الرواية. واعتمدت أسلوب التحقيق في الكتابة الروائية. يغادر المهدي بن محمد الجريدة بعد أن منع من القيام بالتحقيق، ويستقيل منها ومن قسمها الثقافي. ويذهب نحو مغامرة اقتفاء آثار والده، بحثا عن الحقيقة الموضوعية التي سرقها كتبة التاريخ الرسمي، ركضا وراء أصداء والده عند اصدقائه الذين كانوا معه في السجن. إلى اليوم، كلما دخلت إلى المقر جريدة الجمهورية، يغيب عني الفاعلون الأساسيون والبشر الذين أثثوا هذا المكان زمنا طويلا، ولا أرى إلا شخصيات روايتي، التي سكنت المكان. في كل الزوايا، دون أن يراها أحد غيري. أسمع أصواتها، واحتجاجاتها، في آخر زيارة لي للجمهورية، كنت أمشي مع مدير الجريدة بن عاشور بوزيان في أماكنها المختلفة، وأرى شخصياتي. بقيت في عز العمر ولم تشخ. ربما كان هذا سحر الأدب.