مع كل التلاطم القوي والمخيف الذي نعيشه بلا أية رحمة ولا شفقة، في هذا العالم الذي أصبح أكثر مما كان مسرحا لكل الاحتمالات السيئة والمرعبة، وبالرغم من كل الرياح العاتية التي تهب من كل الجهات، والتي لم تسلم منها حتى الجهة التي نشتهينا وتشتهينا محاولين حمايتها بكل قوة؛ شيء ما جميل يجول في خاطري ويسري بنعومة الأمل وحس الاستشراف نحو الأجمل، إنه ذلك الخيط الشفيف والمتماسك الذي لا زال الإبداع بكل أشكاله وأنواعه واتجاهاته يتمسك به، حتى وإن تراءى لنا مرات كمن يتمسك بحفنة خشخاش أو بقشة هائمة في مهب الريح، لكنه مصر على أن يمسك بها وبقوة حتى في أقسى الظروف وأصعبها؛ لأن تلك القشة بالرغم من هشاشتها، هي خيط الروح الرابط بيننا وبين الحياة، التي لا طعم ولا لون ولا عمق لها بدون إبداع؛ حتى الإنسان البدائي خلق وسائله الإبداعية من رقص وغناء وأنغام وألوان، كما استعمل حدسه وخياله وعينه العابرة للعتمة والنور إلى أقصى حد، ليجعلنا نستمتع نحن، وأجيال سابقة وأخرى لاحقة، بكل ذلك الزخم الفني وتلك الأساطير والحكايا والرسومات والأغاني المتوارثة في كل المجتمعات، التي أبدعتها جداتنا المتنوعات والمتعددات المتشبثات بخفق الحياة، المنتصرات على كل الهزائم والهزات العنيفة، المختصرات للوقت وحجزه في قلوبهن للعيش أكثر من حياة ؛ الجدات الواقفات دوما على حواف الحلم والخوف والتوجس في انتظار عودة غائب؛ تسلل مع أول لمعة نور لخوض غمار حرب أو لسلب أرض أو للدفاع عن شرف أو الأخذ بثأر أو بكل بساطة؛ لتأمين وسائل العيش بحرا أو برا لمن هم في انتظاره، مروضا بذلك الرياح والأمواج والوحوش والطبيعة بكل هيجانها أو هدوئها الناعم، حتى ترضى وتلين هي وآلهتها وأنصاف آلهتها. في الجزائر، تلك القشة تحولت في الفترة الأخيرة إلى خيط من حرير ليشكل مع خيوط أخرى جديلة من نور اسمها *بيت الشعر* الذي بدأ يتشكل وينمو بطريقة هادئة ورصينة، مع كل ما خُزّن من تراكم منذ سنوات، بنيّة توسيع حلقات التواصل وتمديدها، وذلك بنسج شبكة عنكبوت بكل ما يحمله المصطلح من معاني عميقة ونبيلة مشبعة بحكمة الأولين، شبكة ذكية فيها من الحكمة والعقلانية وبعد النظر والحس الجمالي ما يكفي،،ليستعيد الشعر مكانته وسط المجتمع ككل ويصبح سيد المقام وسيد المقال إذا ما توفرت له الظروف ليصبح احتفالية دائمة تساهم في تعقيم وتنقية المجتمع من كل عفن، يكون فيه الشعر هو ملحه الأسطوري ، هذا ما نراه من خلال الفضاءات التي تخلق بلا أسوار وحواجز، لاحتضان هذا الإبداع المتنوع الأشكال والهندسة والرؤى والجماليات والفنيات، المتمثل في فن الشعر الذي يتكامل بالضرورة مع الألوان والموسيقى والصورة والمسرح والنثر بكل أنواعه والحكايا الشعبية وما توارث من شعر شعبي وفن في القول. في هذا الزمن البائس والرديء، الذي بدأ يفقد إنسانيته، يبقى الشعر بأبعاده النبيلة وبصورته الإنسانية العميقة؛ هو الحكمة المتحركة والحية واليقظة ، التي تحمل على كتفيها شعلة النور التي لا تفنى، وتخبئ في أعماقها الخفية والحميمة الصوت االصارخ الذي لا يكذب ولا يهادن، والذي يجدد باستمرار إيقاعات الحياة حتى تقوى على تحمل الجراح والمآسي، وتحولها لغة وصورا وموسيقى يمكنها أن ترقص حتى على الجرح وهي تخبئ الجمر بين الراحتين.