مما قرأته أنّ صاحب جائزة نوبل، الروائي إرنست همنغواي، كان يكنّ احتراما شديدا لمواطنه سكوت فيتزجيرالد لأنه تعلم منه فن الرواية، وبعض ما تعلق بالفلسفة والصداقة وعلم الجمال والحياة. وظل مدينا له في تجربته إلى غاية انتحاره بطريقة غامضة رغم شهرته، ورغم قدرته على تجاوز معلمه الذي طالما تسكع معه في الحيّ اللاتيني بباريس، فقيرا وكبيرا، كما ورد في كتابه: باريس عرس، وهو أحد المؤلفات المهمة التي كتبها عن سيرته الذاتية وتشرده ككاتب، وكمراسل حرب. أتصوّر أنّ كثيرا من التلاميذ الناجحين ظلوا أوفياء لأساتذتهم، في الفلسفة والنقد والفقه والإبداع، والتاريخ مليء بهذه العينات، بداية من الدرس الفلسفي اليوناني، مرورا بالقطب والمريد في التجربة الصوفية وأخلاقياتها، كما في الممارسات البوذية وفي بعض الشعر القديم والجديد الذي لا ينكر التأثيرات والمرجعيات. ولعل المقولة الشهيرة التي تواترت في التداول الروسي: كلنا خرجنا من تحت معطف غوغول، تؤكد هذا الجانب الأخلاقي الذي يعترف بما قدمه السابقون، تقديرا لهم، وتقديرا لهم. وقد نجد الشيء ذاته في العلاقة بين لوكاتش وغولدمان، وبين فرويد وبيار داكو، وبين غريماس وتلاميذه. لا أقصد الوفاء بمفهومه التبسيطي الذي لا يسهم في ترقية المختلف، أو النمطي المؤسس على الذوبان في النموذج، دون بذل الجهد الكافي لتجاوز التجارب من أجل التنوّع وإنتاج المعنى. إنما أقصد الاعتراف بفضائل الآخرين، أو بهؤلاء المؤسسين الذين كان لهم فضل ما، سابق على أفضالنا، مهما كانت طبيعته، ومهما كانت مقدرته على التأثير في منجزنا، ثم سيحق لنا، بعد ذلك، الحديث عن التجاوز والتجريب والتثوير والتحديث، وغير ذلك من المصطلحات التي عادة ما لا ترتبط بالمفاهيم والأنساق لأنها رجراجة. العالم المتمدن الذي يعرف حدوده يبني على الحلقية المعرفية الخالدة التي تعدّ سمة جوهرية غالبة، كما يشير إلى ذلك تشيرنيشفسكي، ودون البنية الحلقية للإبداع لا يمكن الحديث عن تجربة مستقلة ولدت من العدم. كما يتعذر، من الناحية المنطقية، الحديث عن القطيعة والاستمرارية دون تمثل. أمّا إحدى مشكلاتنا فتكمن في البناء على المحو، ما يؤدي، بالضرورة، إلى جعل التجارب بنيات ذات علاقات صدامية من حيث إن اللاحق لا يوفي حق السابق، ولا يقيم وزنا للمحايث والموازي في إطار الاستمرارية القائمة على التنوع. التفكير الأمريكي المعاصر الذي يهتم بالدراسات السردية عمل على التنويه بالمرجع كحلقة مؤسسة في المقاربة والتقعيد، رغم أنه بنى لنظريته الجديدة التي ستحل محل علم السرد، إن كتب لها النجاح، على فلسفة سردية مغايرة لا ترتبط بالطابع الوصفي، أو بالاهتمامات اللسانية التي تقتصر على تفكيك تمفصلات المعنى، بل بمجموعة كبيرة من العلوم والمناهج المساعدة على الإحاطة بالخطاب، مبنى ومعنى. بيد أنه لم يمح الدرس الفرنسي الذي قدّم لعلم السرد زادا يصعب طمسه، أي أنه لم يتنكر للعبقرية السابقة التي كان لها الفضل في ظهور البحوث الجديدة. أوردت العينات للتدليل على فعل البناء على البناء، وليس على التدمير المستمر للمقدرة البشرية وعبقريتها. كما يحصل في التقاليد السياسية والعسكرية العربية التي لا تختلف، في منظومتها الشمولية، عن التقاليد الأدبية في بعض ممارسات الأجيال المتلاحقة، على اختلاف أيديولوجياتها ومرجعياتها. ما يسهم، بالضرورة، في انقطاعات كبيرة ومتكررة لا تخدم التواصل، كما تقضي على كل أنواع الحلقات التي تسهم في إنتاج الحضارة. أتساءل عمّا إذا كان بمقدور الباحثين المعاصرين مجتمعين تأليف كتاب من نوع الكشاف للزمخشري، أو كتاب النحو لسيبويه، أو المقدمة لابن خلدون أو تهافت التهافت، أو تهافت الفلاسفة، أو الإمتاع والمؤانسة. وقد ينطبق الأمر على حالات متعلقة بالرواية والقصة والقصيدة. لا يمكن أن نفرض على محمود تيمور أن يكتب على منوال بورخيس، أو أن يكتب محمد حسين هيكل زينب كما كتب بروست ونجيب محفوظ، أو أن تكون المقامة نسخا من قصص موباسان. لقد كتب هؤلاء تأسيسا على ما توفر من تقاليد سردية، ومع ذلك فهم موجودون كعلامات ليس من باب الأخلاق أن نخرّبها لأنها مختلفة عن تجربتنا. أتصور أن الأخلاق تستدعي مراعاة السياقات والسبق والسنن والتحولات لأن الموت يترصد الجديد والقديم، دون التقليل من قيمة ما نبدعه في إطاره الخاص به، بمعزل عن المنوال. كما لا أتصور أدبا دون أدب، أدبا من هذا النوع الذي ينصب نفسه مرجعا مستأثرا بالجهد، كما في الحالة العربية التي امتلأت بالنماذج، في الوقت الذي تعمل على خرق النموذج الذي تراه حاجزا. أي أن جزءا من الإبداع، أو أغلبه، أصبح يقوم مقام أصنام جديدة تشكل خطرا على الأدب، بصرف النظر عن حقيقة هذا الإبداع وقيمته الفعلية. هناك حالة متقدمة من تضخم الأنا على حساب الإبداع، وعلى حساب طبيعة الأدب. أقصد ها هنا الأدب الذي يؤمن بالجدلية، إذ ليس من المستساغ أن تأتي التجارب الصغيرة لتنفي الموروث، معتقدة أنها مراجع مؤهلة للحلول محل الاجتهادات السابقة برمتها، كما يحصل حاليا، إن نحن تابعنا بعض التصريحات الصحفية، وما ينشر على صفحات شبكة التواصل الاجتماعي من عبادات للأنا، ومن المتعذر أحيانا الوصول إلى المستويات التي حققتها، قبل مجيئنا نحن بآلاف المعاول. إن الأدب يتسع للقدامى والمحدثين والتقليديين والحداثيين والعباقرة والفاشلين، وليس من باب الأدب اختزال النجاح في ما نكتبه نحن، بنوع من التقديس. لقد قال الكاتب هنري ميللر عندما بلغ الثانية والسبعين: الآن بدأت أتعلم معنى الكتابة. قال ذلك بعد سلسلة من الروايات الراقية التي أحدثت تحوّلا سرديا واضحا في أوربا وأمريكا. لكنه لم يخلق أسطورته بالتصريحات الوهمية. النقد النزيه العارف هو وحده من منحه ذلك الوسام الذي لم يتخذه كحصان طروادة من أجل شهرة مبتذلة. لقد أصبح واقعنا شبكة من الخرافات، ولم نستطع، بعد عشريات من الكتابة، أن نخلق نقاشا أكاديميا. وأمّا السبب الأول فيرتبط بالمركزة الهشة التي لا تتكئ على ممارسة تجسدها الكتابة ككفاءة نوعية. هناك، باختصار، اعتداء على الأخلاق السردية ببعض الممارسات التي لا صلة لها بالموهبة، بهذه القدرة الاستثنائية على التميز، دون حذف الآخرين. كان علماء اللسانيات يقولون: المعنى يوجد في الاختلاف، وحيث لا يوجد اختلاف لا يوجد معنى، وهي الفكرة ذاتها التي نجدها في السيميائيات، وتحديدا ما ارتبط بالسردية كعنصر منتج للمعنى. لذا، من المهم السعي لتقوية التباين الدال على الخصوصية، بيد أنّ للتباين حدودا وزادا معرفيا مؤهلين لذلك، وأمّا الاختلاف الذي لا أثاث فلا يمكنه ترقية الكتابة، إن لم يصبح مرضا من إنتاج وهم المعرفة، أي من وهم الأنا. لا يمكن أن نصنع هالتنا معزولين عن المحيط والسياق والمعرفة والتراكم. كلّ منا يمثل بنية صغيرة في بنية كبرى، أو بنية تحتية تعد امتدادا للبنيات السابقة، ومقدمة لبنيات لاحقة قد تبني على منجزنا، إن كان ذا قيمة اعتبارية، لكنها قد تتجاوز تفاصيل غير ضرورية لسياقها. ومع ذلك لا يمكنها محو الحلقات من حيث إنها واقع. من المهم، قبل الحديث عن محو الآخر، وعن التجديد والخصوصية والتجاوز والقطيعة، أن نعترف أننا نتعامل بقاموس لم نسهم في وضعه، وبلغة أبدعها غيرنا بجهد وعبقرية، وبأساليب وتراكيب تناقلتها الأجيال، وبدلالات متوارثة، شأنها شأن الأبنية والأخيلة المتواترة. أمَا نحن فقد عجزنا عن إبداع لفظ واحد. لذا يصبح احترام الآخر أمرا جوهريا لأنه قائم في حياتنا وفي أشكالنا التعبيرية، وفي العلامة والذاكرة. أيها الذاهبون إلى الكتابة مهرولين: لا تنسوا المرايا العاكسة. إنها علاج لتضخم الأنا لأنها تضيء حقيقتنا ككتّاب عابرين، وسطحيين أحيانا.