كلما مررت بمحاذاة بوابة جريدة الجمهورية، وإلى اليوم، سواء دخلت أم لم أدخل، ينتابني ذلك التاريخ المرتبك والمشحون بالذكريات، فوق إرادتي. لا أملك حياله الشيء الكثير إلا استرجاعه بسعاداته وعنفه أيضا. يطفو كل ذلك الميراث الثقيل لحياة جريدة لم تكن عادية، زاخرة بالتحولات والهزات الداخلية. كانت مخبرا فكريا ولغويا مصغرا عن جزائر كامنت وقتها تبحث عن طريقها، تتمايل مثل البهلوان بلا وجهة محددة، لا قوة لها للتوازن إلا عمود رقيق يتحكم في كل الحركات الضامنة للسير الحذر والحياة. المتأمل من الخارج لهذه الحالة، يستمتع للحركات والتمايلات الخطيرة للبهلوان، ولكن الذي بالداخل، وحتى البهلوان نفسه، يحس بشكل مختلف. رهانه هو كيف يصل سالما في النهاية إلى بر الأمان. الخارجي والداخلي لا يفكران بنفس الطريقة أبدا. أعتبرني من الداخل وأستطيع أن أتضامن مع خوف البهلوان، ولكن أيضا مع الجمهور المتابع الذي يكاد يأكل أصابعه من شدة الخوف من النهايات. هناك بعض الأفراح، مثل بعض الأحزان، غريبة جدا. نمارسها وكأنها طقوس. لا نعرف بالضبط هل نفرح في النهاية أم نتضامن مع الكآبة. بالحزن على الأقلية المهزومة، التي لم يكن لها أي سلاح ولا أية ورقة إما القبول بالوضع كما فُرض عليها لأنها الخيارات السياسية، أو الرفض المؤدي في كل الأحوال إلى فجيعة التقاعد المبكر. مثلما يحدث تماماً في كرة القدم، فنسعد بفريقنا المنتصر، لكن ذلك لا يمنعنا من التعاطف مع فريق المنهزمين. نعرف سلفا أن انهزامهم لم يكن نتيجة قلة الدراية أو الدربة أو العمل. ولكن لأن وضعا صعبا فرض شروطه بقوة عليهم. شرفهم الكبير أنهم واصلوا اللعبة حتى النهاية والكثير منهم قبل بالنتيجة. عندما ينتابني ذلك اليوم أشعر برعشة في رجليّ وقلبي، ولا أكاد أقف على قدمي إلا بصعوبة كبيرة، فلي عقدة ذنبي الصغيرة والدفينة. يوم الفرح ذاك، والإيمان بأن الرهان اللغوي العربي نجح ولو نسبيا، في اللحظة ذاتها، كان يوم حزن للكثيرين إذ رأوا جريدة الجمهورية وهي تدفن وهي في عز ارتقائها وقوتها. أعرف أصدقاء صحفيين قضوا يومها مساءهم في التابيرنا لا حديث لهم إلا نهاية جريدة كبيرة. اندثار زمن وبداية نشوء زمن آخر لم يكن واضحا لهم وربما حتى لغيرهم. لكنه زمن العداوات اللغوية التي تربت في الحاضنة الوطنية التي لم تكن تصرفاتها مدروسة واستراتيجية. مثل طفل صغير حقق شيئا مما حلم به، كنت يومها فرحا مع الجميع لكن جزءا من قلبي كان مع جماعة التابيرنا وهم يلوكون حزنا لم يستطيعوا تحمله. جزء من طاقم التحرير لم يحضر يومها عيد الانتصار اللغوي إما لأنه دفع إلى التقاعد بعنف، أو لأنه تعاطف مع زملائه رافضا وضعا كان يمكن تدعيمه بترك جريدة الجمهورية جريدة فرانكفونية مثل يومية المجاهد، وتأسيس جمهورية باللغة العربية وخلق نوع من التنافس الشريف بينهما. طبعا لم يكن هذا واردا في خيارات وزارة الإعلام أو إدارة الجريدة التي تسلمت مهمة التعريب. ماذا يمثل هذا التاريخ؟ لقد شُرِع في يوم الإثنين 5 يناير 1976 في تعريب العدد 3853 بداية من الصفحة الأخيرة. كان ذلك إعلانا لبداية مشروع لا أحد كان يراهن على نجاحه. ومع شروق شمس صبيحة أول يوم من 1977 خرجت الجريدة إلى قرّائها في ثوب جديد مختتمة عملية تعريب آخر صفحاتها، استمرت سنة من الجهود المتفانية والكبيرة. . وكان ذلك رهانا حضاريا ولغويا كبيرا. فرحة استرجاع لغة ظلت محاربة زمنا طويلا في ظل الاستعمار الفرنسي، وظل الجهل هو البديل الأوحد لمجتمع الأهالي. حتى الفرنسية ظلت مقتصرة على الأقليات الغنية أو تلك المرتبطة بالإيتابلشمنت الاستعماري. عندما نزل أول عدد من الجمهورية معرّبا كليا، كان الشارع متناقضا في تلقيه. أتذكر أنني كُلِّفتُ يومها بإجراء حوارات في الشارع وفي الجامعة عن المقروئية، وكان السؤال واحدا: كيف ترى الجمهورية وهي تصدر بالعربية كاملة وأصبحت حقيقة إعلامية؟. جاءت الإجابات مختلفة، متناقضة أحيانا، وأخرى متقاطعة. المجموعة الأولى: جميل وضروري. على العربية أن تأخذ مكانتها التي تستحقها كلغة وطنية لها الحق في الاهتمام والانتشار. لقد انتهى زمن صدي وهران l'Echos d'Oran الكولونيالية. على الصحفيين أن يتعربوا أو ينسحبوا. لا حل ثالث. أن يواكبوا المستجدات. الاستعمار ذهب وعلى لغته أن ترافقه. كان الموقف متطرفا إلى حد بعيد. الإجابة الثانية عند المفرنسين في أقسام اللغات الأجنبية، وعلم الاجتماع، والمواد العلمية والنفسية والأطباء والمهندسين والبنكيين. الاجابات كانت كالتالي عموما: كنت أخرج صباحا. أركض مباشرة للكشك المقابل للبيت لآخذ جريدتي، وأنا خائف من أن أجد الأعداد قد نفذت. الجريدة اليوم مكدسة في الأكشاك. أتابع الثقافة والاوضاع المحلية والدولية. كنت عندما كانت الجمهورية مفرنسة، أقرأ الجريدة من الجلدة إلى الجلدة. الدنانير التي كنت أخسرها لشرائها، غير مندوم عليها. الان علي أن أعوِّد نفسي على المجاهد المكتوبة بالفرنسية المرتبطة بالسلطة أساسا. مكره أخوك لا بطل. لو كانت الجمهورية جريدة فاشلة لتفهمت الوضع لكن إيقافها وهي عز ارتقائها لا يمكن إلا أن يكون فعلا سياسيا. لماذا نغير فريقا ينتصر؟ pourquoi change t-on une équipe qui gagne. وإجابات فريق ثالث كان أقل حدة فيما أعتقد: عمر الجمهورية محدود، جديدة على المشهد الإعلامي بصيغتها العربية. لنعطها فرصة لكي تكبر بهدوء. هي الان ضعيفة، وطاقمها في أغلبه شباب بلا خبرة، لكنه سيتعلم وستكون جريدة كبيرة. التعريب هنا بمثابة استثمار حقيقي. لقد طُرحت في الجريدة المسألة اللغوية بحدة كبيرة. لأنها وضعت الكل أمام القضايا التي كانت تخترق الجزائر بحدة. كيف نعرب ونحن غير مستعدين والتأطير ضعيف، والمهنية تكاد تكون مفقودة. المسألة لم تكن تقنية ولكنها كانت سياسية بحتة. دمرت الكثير من بنيات المجتمع اللغوية. في البنوك المسألة رفضت نهائيا وتم التخلي عنها لأنها كانت تعني خرابا أكيدا. لكن الإصرار على تعريب الجمهورية، لم يكن قرارا حكيما من وزير الإعلام، في اعتقادي. كان يمكن خلق جريدة عربية تحمل اسم الجمهورية، موازية، تتبنى فكرة التنافس الاعلامي المثمر. هذا ما اقترح الكثير من الصحفيين الفرانكفونيين من ذوي الخبرة، لكن لم يسمع لهم أحد أبدا. فقد تم تخريب نواة فكرية كانت بصدد التكون والتمايز إذ كانت الجمهورية مرجعا وطنيا إعلاميا، ولكن أيضا دوليا. بلورت الخطاب الإعلامي الوطني على الرغم من الفرنسية، وأوصلته خارج الحدود. لقد تمّ ًكسر شيء كان قائما. مرده وقتها المرجعية السياسية التي تدخلت في المهنية. مع أنه كان يمكن الذهاب بعيدا في الفكرة اللغوية. ضيق الأفق هدم كل شيء، وأعتقد ان ما يحدث اليوم نتحمل كليا مسؤوليته الكبيرة. غياب التبصر والبراغماتية دمر كل شيء. بدل الاستفادة مما كان موجودا وتغيير بنياته وفق الحاجة الوطنية، تم تدمير كل شيء. طبعا يجب عدم نكران جهود أجيال من المعربين في الجريدة وحماسهم الوطني في مواقع الإدارة أو الكتابة الصحفية، ومن المفرنسين الذين تمكنوا من الكتابة بالعربية رغم الصعوبات، لكن يجب عدم السكوت أيضا على وضع لم يكن سليما في الأصل أبدا. العمى السياسي الأحادي كان له الدور الحاسم والمدمر لمستقبل الحياة الإعلامية والثقافية زمنا طويلا في الجزائر. فرض خطابا أجوف وضعيفا لا يعرف إلا التهم ومحاربة من لا يوافقهم. جيل من الصحفيين انقرض في النسيان وعمق الخيبة، وخسرته الجريدة إلى الأبد. وعلى الرغم من خطها الوطني، ظلت الجمهورية في نسختها الفرنسية تدافع عن استقلاليتها لدرجة ان قال عنها إحد مسؤولي جهاز الحزب: الجمهورية ليست جريدة وطنية ولكنها جريدة معارضة. من أراد أن ينصاع لقرارات الحزب والدولة، مرحبا به، فهو في بيته، ومن شاء غير هذا، فما عليه إلا أن يغادر الجريدة. كانت هناك شبه عداوة تجاه لا لغة الجريدة، ولكن ضد محمولها السياسي وقدراتها النقدية. كان التسامح اللغوي وقتها يعني أستسلاما للغة المستعمر ولبقاياه. العنف اللغوي لم يكن أقل من العنف العام المصاحب لفترة ما بعد الثورة الذي قتل فيه الكثيرون بلا محاكمات وبشكل انتقامي، بل كان جزءا من ذلك العنف. لم يكن 01/01/1977 يوما ككل الأيام. كان فرحا ورمادا في الوقت نفسه ما يزال يتبعنا حتى اليوم.