- أرأيت..؟ عيون العالم كله على باريس هذه الأيام، هل هي ساعة الإعلان عن الفائز بجائزة الغونكور الأدبية الشهيرة؟ - لا .. فموعد الغونكور قد فات. لا هو موعد الغونكور ولا هي جائزة فمينا، ولا هو موعد أبطال باريس العائدين من موسكو متوجين بكأس العالم لكرة القدم، و هم يقطعون جادة الشان- إيليزي بفخر و ورد و غناء، فالاحتفال بنجمة العالم قد خبا و العرس قد انتهى منذ شهور.. عيون العالم كله .الأيام هذه . معلقة بنشرات و تقارير شاشات التليفزيونات و بمواقع التواصل الاجتماعي، تتابع و تعلق و تقرأ ما يجري لباريس بأسى و حسرة عند البعض، و بخوف عند فريق آخر، و بتشف عند ثالث. شارع يحترق، ثقافة عنف تتصاعد. غموض يسد الأفق. و أنا أتابع ما يجري من ارتجاج قويّ في الشارع ، كما في أسئلة الفرنسيين و الأوروبيين، تذكرت ما سمعته و ما قرأته عن مخلفات ثورة الطلاب في مايو 1968، تلك الثورة الثقافية و الفكرية التي أحدثت انقلابا لم يهزّ فرنسا وحدها، بل ارتجّت له معها و من خلفها أوروبا، و اهتز العالم كله. كان جيل ثورة مايو 1968، أو ما أُطْلِق عليه اسم جيل *لي سواسانتويتار* (les soixante-huitards) ، جيلا مؤسَّسا على فلسفة تبحث عن التغيير، بعد أن انتهت فرنسا الكولونيالية بهزيمتها في حرب الجزائر في يونيو 62. جيل يبحث عن صياغة صورة قشيبة لفرنسا ما بعد الكولونيالية، ويهفو إلى رسم صورة لبلده، تخلصها من الترهل السياسي و الاجتماعي و الثقافي. لم يكن منبع انقلاب مايو 68 ومحركه سوى الطبقة المثقفة، التي أرادت أن تدفع بفرنسا إلى الريادة في الحلم، بعد أن أصبحت أوروبا كلها تنحدر نحو وهن الشيخوخة والهرم في كل شيء، الشيخوخة الطبيعية و الفكرية. و باندلاع ثورة مايو 68 التي كان لونها الغالب يساريا، و روحُها السائدةُ إنسانيةً، استطاعت فرنسا أن تعود إلى الواجهة الثقافية و الفنية، و أن تزيح ألمانيا و بريطانيا إلى المقعدين الخلفيين. واستطاعت أيضا أن تغشى صورة فرنسا الاستعمارية، لتدخل بها في عصر جديد بفلسفة و سلوك حياتي مغايرين. مثّلت الفلسفة والأدب والفكر والجمال العناصر الأساسية التي ارتكزت عليها ثورة مايو 68 ومثّلها الكثير من المثقفين الوازنين عالميا من أمثال سارتر، و سيمون دو بوفوار، و ريجيس دوبري، و أراغون، و رايمون آرون، و دانييل كوهن-بينديت وغيرهم. - فما الذي يحدث اليوم يا ترى ؟ ما الذي بين 1968و 2018 غير رقم ثمانية الختام؟. ما الذي يحدث اليوم لباريس بقوس نصرها ؟ أهي ثورة مايٍو جديدة، أم هو تذكير للطبقة السياسية و الثقافية والعمالية بفشل حلم ثورة مايو 68 الطلابية والمثقفاتية، التي كانت مدججة بشعارات العدالة و الحرية و الأنثوية، وهي اليوم و بعد مضي نصف قرن بالتمام و الكمال (68-2018) تدخل المتحف، بينما كان ينتظر منها أن تمثل رحما تاريخيا كان يرتجى منه أن يفرخ فرنسا جديدة. هل أراد أصحاب السترات الصفراء بعث مايو في نوفمبر، فيصبح شهرا ثالث عشرا اسمه *مايوفمبر* ، يأتي زمنه كلما شعرت الشعوب بالرغبة في الثورة على الظلم وتغيير الأوضاع.؟ هل هو *مايوفمبر* باريس ؟ هل ما يحدث اليوم في مدينة عُرفت بأنها عاصمة تاريخ الأنوار، و فلاسفته، و شاعت سمعتها بآدابها الخالدة، هو تذكير بإخفاق قِيَم ثورة مايو 68 التي أمست مع الأسف في نهاية المطاف و بعد نصف قرن رأسمالية متوحشة جديدة، ترعاها طبقة سياسية و ثقافية و فلسفية تمارس خطاب اليسار و تمشي نحو اليمين، ساحقة في طريق زحفها الطبقات الاجتماعية الفقيرة و المتوسطة. !؟ لا شك فإن غالبية مفجري ثورة مايو 68، الذين يطلق عليهم ( لي سواسانتويتار/Les ( soixante-huitards هم من المثقفين و الأدباء و الفلاسفة و الأطباء و الطلاب ذوي السترات أو الأوشحة الحمراء، ولا شك أيضا أن مفجري ثورة اليوم، ثورة السترات الصفراء على الرغم من أنهم من المجهولين الناهضين من ثنايا طبقات المجتمع، إلا أنهم حتما أبناء و أحفاد مفجري مايو 68.