نحن في يوم 18 جوان 1977 في قاعة التحرير بجريدة الجمهورية للحديث عما حدث لابن بيلا والكتابة عته. لا يمكن أن ذكرى التصحيح الثوري 19 جوان الثانية عشرة، دون الكتابة عنها . كان الوضع حادا خلقته فكرة الكتابة عن هذا التصحيح أو الانقلاب. كان النقاش مفيدا بالنسبة لشخص مثلي. الخلاف كان بين تصورين: هل ما قام به الهواري بومدين وقتها كان انقلابا أم تصحيحا ثوريا. شيئا فشيئا ارتسم فريقان مختلفان كليا. فريق مع فكرة أن ما حدث تصحيح ثوري. ويرون أن الحكم الفردي الذي تطور في الجزائر كان سيقود إلى الطغيان وكان لابد من فعل شيء. ابن بيلا، كما يرون، لم يكن يقبل بأي شيء وبأي نقد. وكان متفردا في الحكم. وما قام به وزير دفاعه الهواري بومدين لم يكن إلا استجابة لمطلب الجماهير. وكنت في أعماقي أتساءل، دون أن أفصح بذلك، هل طلب الحكام من الجماهير رأيها فيما حدث؟ أمي بكت على بن بيلا. فهي كانت تغني عن بطولاته في الصف وكان صوتها جميلا وحنونا. أتذكر أني رأيت لاحقا في الأحداث المصورة التي كانت تبث قبل عرض الأفلام في صالات السينما، بومدين وهو يستعمل في الإعلان عن التصحيح الثوري؟ كلمة «الطاغية» على حكم بن بيلا. مما يدل أن المسألة تتجاوز التصحيح الثوري وأن في العمق توجد أشياء لم تكن جميلة. وفريق محدود عدديا من الصحفيين كان على رأسه الصحفي ذو الشعر الأبيض، مع فكرة أن ما حدث ليس إلا انقلابا خطيرا بماكياج ثوري. لأن الوقائع تبين ذلك. وكان يمكن تصحيح الأمر بطريقة أخرى ثم ما مبرر سجن رئيس جمهورية إلى اليوم وهو لم يتهم رسميا بأي شيء. كان الخلاف حادا بين الفريقين. أنهى الرجل ذو الشعر الأبيض كلامه بجملة هاربة اتضح فيما بعد أنها كانت حقيقية: على كل حال نقاشنا جيد لكن لن يظهر في الجريدة إلا ما يسير في الخط العام: التصحيح الثوري. عندما سأله أحد الصحفيين: إذن أنت بنبليست. يعني من أنصار بن بيلا. وكانت الكلمة وحدها تكفي بأن تقود صاحبها إلى السجن. قال: إذا كانت كلمة بنبليست تعني أن ما حدث كان انقلابا ضد رئيس منتخب. فأنا بنبليست. المشكلة أكبر وأعظم. تجربة الحكم في الجزائر جديدة وكان يمكن الاتفاق على قواعد للخروج من الشعبوية. ولكن العنف العسكري سيضع الحكم مستقبلا في يد من يملك القوة وليس من يملك الثقافة ويناصر الديمقراطية. لم يخطئ الرجل أبدا. وكنت قد أنهيت ترجمة مقالة لصحفي كان قد سلمها لي رئيس التحرير تشيد بخصال بومدين واستماتته في الحفاظ على وحدة البلاد. وأن تصحيحه جلب الخير للجزائر التي كانت على حافة الانزلاق نحو الدكتاتورية. ترجمت المقالة وأنا أحس بمغص. فاضت صوري الطفولية في ذاكرتي لدرجة الألم. يوم الانقلاب كان عمري 11 سنة. ورأيت كيف بكت أمي وهي تردد: حبسوا حميميد. حبسوا حميميد، عندما سمعت بأن بن بيلا قد سجن. وأنا أيضا حزنت لا لشيء فقط لأنهم سجنوا شخصا مر على قريتنا في سيارة مكشوفة ذات صيف، وكنا انتظرناه مع معلمنا كل الصبيحة بلا جدوى حتى ضربتنا الشمس على الدماغ. وقتها نبهنا المعلم بأن الرئيس قد وصل أخيرا. فرفعنا الإعلام الورقية عاليا بالصراخ: تحيى الجزائر وبن بيلا، تحيى الجزائر وبن بيلا. وعدت للدار يومها سعيدا مع قليل من الخيبة لان الرئيس مر دون أن يصافحنا كما وعدنا المعلم. ضحك صاحب الشعر الأبيض وهو يردد: ومع ذلك فهو انقلاب. ثم سحبني وراءه لأقرب مقهى كان يرتاده وكنت أرافقه من حين لآخر. هذه المرة عاد بعد أن ظننت انه غادر المكان نهائيا. أو طرد. وكنت أعرف أن من يطرد عادة، يكون ذلك بسبب احتمالين، إما لسبب سياسي، أي أن الشخص أدخل أنفه في خميرة سرية تكونت عبر زمن، ممنوع عليه أن يشم عفنها، أو يقترب منها، أو لسبب قسري لا نعرف سره إلا عندما تصل الأخبار المتفرقة النادرة، ونكتشف بأن الشخص سجن لسبب وقائي. وكنت دائما أتساءل الوقاية ممّا وممّن؟ حمل الصحفي ذو الشعر الأبيض التيرمو ونزلنا للطابق الأرضي، وكان خاليا. رفع رأسه. نظر قليلا وقال. غريب مكان جميل. بناه صاحبه المعمر، بشكل أنيق ليكون مقرا اجريدة أصداء وهران les Echos d'Oran. ماذا بقي من المكان القديم الذي كان به مقهى ومطعم داخلي، وغرف لصحفيي الجريدة. اليوم هذا الميراث استولى عليه السكان المحيطون ولم تبق للجريدة إلا أمكنة صغيرة. قاعة التحرير ومكان تهييء الجريدة تقنيا، والأرشيف، والمدخل الرئيسي. وكأن البقية كانت عبارة عن زوائد يجب أن التخلص منها. فجأ رأينا ظل رجل معروف في الجريدة بتخطى الباب ويأتي نحونا. لا أحد يعرف مهنته. على عينيه نظارتان سوداوان. صبّح علينا. وقال ضاحكا. الحمد لله على السلامة مشددا على حرف السين. ثم التفت نحوي. واش؟ راك تعلم واسيني العصيان المدني؟ وزاد في ضحكته أكثر. ضحكت لكن وجه الرجل ذي الشعر الأبيض ظل باردا كقطعة الثلج. ثم أضاف: اعطني كأس قهوة. أجابه الرجل ذو الشعر الأبيض: للأسف وصلتَ متأخرا. شربناها كلها. ثم سحبني من يدي وخرجنا نحو مقهى الدرب؟ الشعبي وهو يتمتم: يا لطيف في كل مكان. شيء في أعماقي كان يشغلني بقوة. كنت أريد أن أقول له الحمد لله على السلامة. لكن صاحب النظارة السوداء لم يترك لي فرصة. وضع التيرمو وقال للقهوجي. كأس قهوة كبير لي. وكأس ماء، وشاي لواسيني. عندما جاءنا النادل بالقهوة. أخذ كأس الماء فشربه. وملأه بالقهوة التي كانت معه في التيرمو. عادته الدائمة. قال: الله غالب. هذه قهوتي أعدها بيدي وقلبي وحواسي. كان الضجيج كبيرا. قلت له عمي... غيبة طويلة. أجاب جادا. نعم والسبب ذبابة. ضحكت ولم أصدق. لم أفهم جيدا. لم يتركني في حيرتي طويلا. التفتَ إلى اليمين. ثم التفتَ إلى الشمال. قال اسمع. كتبت مقاله رفضت في قسم التحرير، وهذا متعود عليه. السبب كنت أعرفه أيضا. تساءلت مثل طفل: ولكن ما علاقة الذبابة بكل هذا؟ قال بعد أن التفت ثانية يمينا وشمالا. قصة طويلة أرويها لك. تعرف يا واسيني، المقاومة فعل غريب. قد يتعلق الإنسان بأي شيء حتى بقشة عندما تستيقظ فيه قواه النائمة في اللحظات الأكثر يأسا وقسوة وتدرك أن الذي سجنك لا يريد قتلك، ولكن تجنينك لي.