الحديث عن المثقف والسياسي هو الحديث عن الثابت والمتغيّر، هو الحديث عن صاحب القرار وعن منتج الأفكار، ورغم هذا الاختلاف إلا أنّهما يشكلان عنصرا مهمّا فيهما تسير مركبة المجتمع ، وعليهما يعوّل الشعب للارتقاء بالأمّة إلى مصاف الأمم المتقدّمة، كلاهما يناضل على مستواه خدمة للمجتمع و أفراده ويلتقيان في المصلحة العليا للوطن الذي يقدّمان له الولاء الخالص. لكنّ علاقة جدلية تظلّ ترافق هذا الثنائي ومردّها لدور كلّ منهما و لطبيعة الممارسة في مجال كلّ منهما، فالسياسة تعتمد على المصلحة في اتخاذ القرار وبالتالي فهي متغيّرة بتغيّر المصالح، وهي فنّ الممكن، أمّا الثقافة فترتكز على المثل والقيم الثابتة التي يستند عليها المثقف في إنتاج أفكاره و بلورة رؤاه، فإذا ما التقت فكرة المثقف مع مصلحة السياسي، فإنّهما يمشيان جنبا إلى جنب في سبيل تحقيق نفس الهدف، أمّا إذا تضاربت مصلحة السياسي مع فكرة المثقف فهنا يحدث الاصطدام، إذ تتشكل لدى كلّ منهما فكرة أنّ الآخر يهدّد وجوده، ويبدأ الصراع بينهما، صراع المثقف و السلطة ، لدرجة قد تعرّض المثقف للسجن أو النفي، أو الهجرة الاضطرارية بحثا عن مناخ أكثر حرية للتعبير عن أفكاره التي يعارضها السياسي صاحب القرار المباشر الذي يؤثّر في الشعب. لكنّ نظرة إلى واقعنا في بلداننا المتخلفة تجعلنا نطرح إشكالية فيما يتعلّق بوعي المثقف بدوره، وبمدى إدراك السياسي لأهمّية الأفكار التي يمكن للمثقف إنتاجها، لنبدأ مثلا من سؤال عن مدى التحام المثقف مع المجتمع لنشر أفكاره وجعل الأفراد يتبنّونها وبالتالي سيصير الأكثر تأثيرا للارتقاء بالفرد وللمشاركة في عملية بنائه كما يليق بالمواطن المتحضّر، وهو بهذا يحقق له وجود النموذج الأمثل كي لا يضطرّ للبحث عن مثل أعلى خارجه، فكثيرا ما يضع المثقف نفسه في برج عاجي يجعله ينظر نظرة دونية لباقي أفراد الشعب، الأمر الذي يجعله أشبه بالمغرور الذي يقف فوق جبل يرى الناس صغارا وهم أيضا يرونه صغيرا . وبالمقابل قد يبحث السياسي عن مشروعه الثقافي الذي يؤسس لمناخ يستجيب لمصلحته فينتج مثقفا يشترك معه في المصلحة، فتتعطّل لدى هذا النوع من المثقف أهمّ آلية وهي إنتاج الأفكار و بلورة الرؤى ممّا قد يجعل الحياة الثقافية بلا روح تحرّك المواطن نحو آفاق واسعة ليكتسب القدرة على صناعة الجمال في المجتمع على مستوى السلوك وعلى مستوى ممارسة المواطنة، ممّا قد ينجم عنه تشكيل فكر معارض لدى كلّ مواطن يبحث عن الخروج من وضع الجمود والتطلع إلى نموذج أجنبي يتماشى و روح الحرية التي تتوق لها الشعوب. لذا من الضروري أن ينتبه المثقف إلى أنّ برجه العاجي الذي اختاره سيتحوّل مع الهوة التي شكّلها بينه وبين مجتمعه إلى سجن يخنقه، ويجعل أفكاره بلا معنى، والسياسي الذي ألغى المثقف وأقصاه باعتبار أنّه يهدّد وجوده عليه أن ينتبه إلى أنهّ بهذا الفعل قد يبني عرشه على خراب المجتمع. كلاهما السياسي و المثقف إذا لم يحملا بذرة الاستمرارية التي لا تنبت إلا في تربة قيم ومثل الشعب وثوابت الوطن سيكونان قد رفعا معاول هدم لتاريخهما.