مواطن ...لا ابن كلب! هذا عنوان كتاب الإعلامي علي رحالية الصادر عام 2011 عن متيجة للطباعة. وقد حصل أن اشتغلنا معا في الخبر الأسبوعي. وكانت صفحته من أجمل الصفحات، بالعودة إلى ذائقتي وخياراتي، ليس إلاّ. للعلم فإن هذا المقال نشر قبل ثماني سنوات، لكني فضلت إعادة نشره لقيمته، ولألفت الانتباه إلى أهمية هذا الكتاب الذي مرّ كالظلّ، غريبا عن آخره، رغم أنه سبق وقته بأعوام كثيرة، وسبق الحراك بنظرته إلى الحاضر والمستقبل، وبدقة كبيرة. للإشارة فإني أضفت القفلة، كما أضفت بعض الكلمات ذات العلاقة بالسياق الحالي، ومنها كلمة حراك، وذلك من أجل المقارنة. وبعد: لقد قرأت كثيرا لهذا الصحفي القدير الذي لا يكتب من بيته عن أحداث تستدعي الاطلاع والاتصالات والمساءلة والموازنة و النباهة في الطرح. وتمنيت أن تصدر مقالاته في مؤلف، شأنها شأن مقالات عبد العالي رزاقي وحبيب راشدين ومحمد الهادي الحسني وعمار يزلي وآخرين، دون أي اعتبار للانتماءات والأيديولوجيات والملل والنحل، لأن القارئ بحاجة إلى هذه الخبرات المتباينة لتفادي الأحادية المقيتةواليقينيات المضللة التي أنهكتنا. آراؤنا ليست كتبا منزلة، وستظل، مهما كانت جديتها، مقاربات قابلة للنقد والنقض. لم أعثر في الكتاب على مفاضلات ذاتية تمس بمصداقية المقالات.ثمة عروض ومقارنات تكشف عن التناقضات الواردة في تصريحات الآخر/الآخرين، وهي صادرة عن قناعةواحدة: البحث عن تجليات الحقائق ما بين السطور، وما بين العلامات، دون إبداء الرأي في كثير من الحالات، خاصة عندما تكون سديمية. وهذي منهجية تنم عن احترافية حقيقية عندما يتعلق الأمر بالمسائل التاريخية، وبالمسكوت عنه في بعض ما يحدث عندنا، وفي بعض ما ينشر، وفي مايقال للأجيال القادمة التي تبحث عن نفسها في هذه الفوضى التي لا مثيل لها، أو تحت أنقاض نفوسنا الخربة التي لا حظ لها مع نفسها ومع الآخرين. الكتاب ليس تاريخيا، بالمفهوم العلمي للكلمة، وليس اجتماعيا أو نفسانيا أو سياسيا أو ثقافيا أو أدبيا.إنه هذا وذاك، تنويعات أنتجت نموذجا خاصا يمكن أن نختلف في تحديده وتصنيفه وفق الأجهزة المفهومية والمصطلحية التي نمتلكها عن الصحافة.لكنه مهم، وضروري في مكتباتنا المنزلية، لأنه يستحق ذلك، وقد يكون، من منظوري، أحد أهم الكتب التي اهتمت بالشأن الجزائري، بجرأة وعناد، ومن اهم الكتب التي كانت تنظر إلى مستقبلنا الغامض. لقد غطى الكتاب عدة مساحات، من تموقعات مغايرة، وبموضوعية «فاخرة»إن نحن احتكمنا إلى الموضوعات والمضامين والرؤى، دون الأساليب والحقول المعجمية وقضايا النعوت المستعملة بكثرة، بداية من العنوان، مرورا بالمتون قاطبة، وهي نعوت وظيفية في سياقها، ومقصودة، وغاية من الغايات في بعض المقالات (100 مقال في 500صفحة). للإشارة فإنّ الكتاب قسم إلى خمسة فصول: سياسة وبوليتيك/تكفير... ترخيص... تبغيل... وبوليتيك / تاريخ... وبوليتيك / ثقافة ...وبوليتيك /تخاريف ... وبوليتيك /، إضافة إلى.. إهداء وكلمة بمثابة مقدمة. كما أن الفصول الخمسة تشترك في كلمة «بوليتيك»، النواة القاعدية للكتاب.وإذا كان هذا اللفظ الفرنسي يعني السياسة، فإن استعماله الدارج يحمل معنى آخر:الكذب، الهراء، المسخرة، التيه، النفاق، الرياء، وما إلى ذلك من الدلالات السلبية، وهو يعكس تماما ما ورد في المتن:العبث الأعظم بالقيم والناس والتاريخ والمدرسة و الجامعة والعقل والوطن والوطنية والدين والشباب والكرامة البشرية والثقافة، أي كل ما من شأنه التأسيس للفعل الحضاري...ذاك هو «البوليتيك»،وبصيغة المذكر، عكس ما هو متفق عليه في اللغة الأصلية. قد يقول قائل إن هذه المسائل متواترة، معروفة لدى العام والخاص، بيد أنّ مقالات علي رحالية مختلفة كثيرا، و هذه إحدى ميزاتها.أمّا الاختلاف الأول فيكمن في التوثيق المدهش، أي أنّ القارئ سيجد نفسه أمام مقالات مؤثثة على عدة أصعدة:الأحداث، التواريخ، الأماكن، الأشخاص، والمزدوجات عندما يتطلب الأمر ذلك.وهذه المزدوجات المثيرة تحيل على معرفة وموضوعية، وما إلى ذلك من الأكاديميات التي نفتقر إليها في إعلامنا،أو في بعض هذا الإعلام الذي يحتاج إلى ترقية جذرية لطرائق تعامله مع الموضوعات المعقدة، أو المبهمة. وأما الاختلاف الآخر فيكمن في القدرة على العرض والتحليل والمقارنة الوافية، قبل بلوغ النتائج، ما يعني أنه تفادى المعياريات والأحكام المسبقة. لذا تبدو المقالات منطقية ومقنعة من حيث قوة العلاقات السببية، ومن حيث الجوانب المنهجية التي اتكأ عليها لتقديم الخبر ونقيضه،والخطاب والخطاب المقلوب،ثم النتيجة،أو النهاية المفتوحة في بعض الحالات التي تبدو مستعصية. وتتمثل النقطة الثالثة في المصادر والمراجع المتنوعة، وهي كثيرة ومتضاربة.هذا الصحفي لا يلعب لأنه يقرأ، ويعرف كيف يقرأ ولماذا وكيف.أي أنه يفعل ذلك بنباهة، وكشخص مسؤول عن علاماته، دون أن تتدخل ميوله السياسية، إن كانت له ميوله، لأني لم أتبينها في مقالاته، على اختلافها، وهذا أمر غاية في الأهمية لأنه يجعل القارئ أكثر اطمئنانا،وأكثر اقتناعا بناقل الخبر، أو بالحقيقة. مع ذلك فإنه من السهل أن نكتشف بأن هذا الإعلامي معارض للباطل حيث كان.لكنه لا يعارض سلطة معينة، أو حزبا معينا، أو جماعة أو طائفة، إنما يعارض صناعة الشر والفساد والسرقة والتجهيل والتهريب والجريمة والكذب والعبث والتزييف، وكل ما من شأنه أن يقود البلد إلى الخراب، وهي الكلمة التي وردت على غلاف الكتاب.إنه يعارض الجميع،ويعارض نفسه بسخرية ممتعة فنيا. تؤكد هذه المعارضة أنّ المؤلف من أكبر المدافعين عن تطبيق القانون، أي أنه ليس معارضا في نهاية الأمر ما دام يحتكم إلى الدستور ويبحث عن الحق، مثلنا، ومثل المسؤولين الذين انتخبناهم لتمثيلنا في البرلمان ومجلس الأمة والبلديات والدوائر ومختلف الأجهزة الأخرى. ما عدا إن كانت نيتنا بليدة، إن كان يجب فهم المسألة مقلوبة: اختيار ممثلين لترسيم الباطل وتقنينه. وإذا كان الأمر كذلك، فإن كل مقالات علي رحالية فاسدة وباطلة و مناوئة للمنطق و الاقتراعات و الدنيا و الآخرة، و من ثم ضرورة تفادي قراءتها لئلا تلحق ضررا بطمأنينة الأفراد و مستقبلهم وبمستقبل طبقة الأوزون والطماطم وعلب المصبرات والورق. إذا كان الباطل هدفنا، وطريقنا الوحيد إلى الغد الأفضل الذي قد لا يأتي أبدا في الظروف الحالية والسابقة واللاحقة، وسياستنا الوحيدة، وفلسفتنا المثلى التي تقودنا إلى الوطن والله والجنة التي تبتعد تدريجيا، فلا داعي لقراءة كتاب»مواطن...لا ابن كلب»لأنه كتاب لا يؤمن بالباطل، بل يفضحه ويحاربه بداية من الصفحة الأولى، إلى غاية ما بعد الصفحة الأخيرة، لأن علي رحالية يكون قد استمر في الكتابة على البلاط و الجدران و الهواء و التراب و الماء والقمر. إنني أتفهم غضب الصحفي و«تحامله» و«تجاوزاته» التي تتجلى في بعض المفردات والجمل والأفكار المثيرة،أو المفارقة للقوالب الصحفية المعهودة، ولو كنا في سنه ووضعه لفعلنا الشيء ذاته، بجودة أقل، وبرعونة أكبر، وبسرد مفكك، لأن سرد علي رحالية فيه وفرة من الفن والعبقرية والتماسك و القوة، و فيه ثقافة نفتقدها في كتبنا وفي جرائد كثيرة لا تولي أهمية لهذا الجانب المصيري في كتاباتنا التي تبدو شفافة وفقيرة في بعض الأحيان،أو في أغلبها.وهذي حقيقة لا يمكن تجاهلها لئلا نسقط في النزعات التبسيطية المدمرة. ملاحظة: يخيل إلي، تأسيسا على بعض ما ورد في الكتاب، أن هذا الصحفي ذاهب إلى القصة والرواية لا محالة، وسينجح في ذلك بالنظر إلى قدراته التخييلية المتميزة.وقد نربح الكاتب ونخسر الإعلامي، ولو وفق بين الإثنين لفعل خيرا. شكرا علي، وشكران إن أنت راجعت الطبعة الثانية، لأن ما نشر في الجريدة مختلف عما جاء في الكتاب، ومرد ذلك ظروف النشر التي أعرفها كاملة.كما أني أرى أنه من المفيد استخراج مجموعة من النصوص القصصية من الكتاب ذاته،مع بعض الترقيع،وستكون قصصا مهمة لأنها استثمرت في الحكاية والمتخيل والسرد والصورة والمعجم. مع هذا وذاك:أنا مع فكرة إعادة هيكلة الذاكرة والثقافة والماضيو الحاضر والدقيق والهواء والملح والدواء والكلام والنخب والكذابين و «الشياتين» و «البوليتيك» والسلام عليكم وصباح الخير. ودمت مواطنا كما عهدتك. مواطناوأكثر. وذلك أضعف الإيمان. قفلة: سيلاحظ المتلقي أن هذا الكتاب سبق الحراك الشعبي بسنين، وهو يتقاطع معه في عدة مطالب وشعارات، وحتى في الجانب الساخر الذي يتجلى في بعض الكتابات التي ترفع هنا وهناك. هل كان هذا الصحفي يأتي من المستقبل إلى الحاضر؟ أم أنه كان يعيش تفاصيل اللحظة الحالية قبل حصولها؟ ثمة تقاطعات كثيرة، وعدة نقاط مشتركة. لقد كان علي رحالية يطالب بما يطالب به الحراك الحالي، لكنه يذهب بعيدا في تفاصيل الواقع لأنه يركز على جزئيات دقيقة لم نصل إليها بعد.