اليومان الأخيران عاشتهما الجزائر في قوقعة التخوفات. هل وصلت فكرة تعايش الأجنحة إلى نهايتها، وأن الحل المتبقي هو أن يبلع جناح، الجناح الآخر؟ أم أن العصابة التي لا تريد أن تستسلم، تطلق رصاصاتها الأخيرة، تلتجئ الآن إلى اللعب على المكشوف والتخلاط، واستعمال الوضع العام المهيأ لذلك كله، تحريك القبائلي، بالخصوص الماك، للإعلان منطقة القبائل منطقة مستقلة، ومنطقة بني ميزاب منطقة تحت حماية دولية بحكم معاناة الأقلية. يمكننا أن نتخيل وضعية بقية المناطق وانتظار الكبوة للانقضاض على الجزائر والمناطق النفطية. سيناريو خطير. ليس جديدا. وبالتالي كسر الحراك الذي الغى كليا الخلافات وانتمى للمواطنة الجزائرية وهو أجمل ما يمكن أن يصل إليه أي حراك. لهذا، فالنضال الأكبر للحراكيين هو الحفاظ على هذه الخصوصية العددية والسلمية التي جعلت صورة الجزائري ترتقي عاليا. تعيش الجزائر اليوم حلما لم تعرفه من قبل، لا تعادل فرحته إلا فرحة الاستقلال التي أصيب فيها الناس بحالة خدر غير مسبوق بعد قرن واثنتين وثلاثين سنة من عبودية الاستعمار والذل. لكن، في ظل هذا المهرجان السعيد، الذي اشترك ويشترك فيه من الشيخ الطاعن حتى البيبي الصغير المحمول بين ذراعي أمه، يجب ألا ننسى أن الجزائر تحت مجهر جهوي شديد الخطورة والمناورات المختلفة ليست عملا عسكريا عبثيا، وفي دوامة وضع دولي شديد الخطورة، يريد ان يمرر بنود النظام الدولي الجديد للمزيد من التمزقات التي أضعفت المشرق، وتضعف الآن الجزائر حيث لا تبقى على الأرض إلا إسرائيل وأصدقاءها الذين يمهدون لها اليوم ليس فقط سبل الاعتراف ولكن نقل السفارات إلى القدس. وتحت قبضة عصابة عانت فسادا في البلاد، فقتلت وشردت ونهبت المال العام، وجعلت من الريع النفطي مركز غناها. مئات المليارات ذهبت مع الريح، ولا يجب أن يقفوا أمام العدالة فحسب، ولكن أن يرجعوا المال المنهوب منذ عشرات السنين. الأيادي الملطخة بالدم، والمتسخة بالنهب والسرقات يجب أن يعرفها الشعب والحراك الذي يجب أن يظل على سلميته حتى انهيار نظام القنانة الذي فرض على الشعب الجزائري. لا أحد فوق القانون، من الرئيس حتى أصغر موظف كما في الديمقراطيات العالمية الكبيرة. ما المانع من أن نصبح مثلها؟ النظام الريعي من أشرس الأنظمة لأنه يعتمد على خيرات طبيعية لا يخسر فيها ولا مليما، لا شيء يهمه في النهاية إلا مصالحه الخاصة التي يتشبث بها حتى الرمق الأخير. في جعبته كل أساليب الخداع وميراث الجريمة السياسية والقتل السري. لنا أن نتخيل قليلا فداحة خساراته إذا لم يصل الحراك إلى تحقيق أهدافه النبيلة؟ ويجب أن يحققها لأن الهزيمة ستكون قاسية ليس على جيلنا لأنه في نهاياته، ولكن على الطفلة الصغيرة التي كانت تركض في أحد شوارع العاصمة المكتظة بالمتظاهرين، وهي تصرخ بلا توقف: كليتوا البلاد يا السراقين. أكبر ما في الحراك جماله ومصداقيته وإصراراه وتلاحمه، وأخطر ما فيه هشاشته. عندما تسأل الشباب في المظاهرات المليونية، وىخر هذه الجمعة التي جمعت أكثر من عشرين مليون على المستوى الوطني، هل سيستمر الحراك في سلميته على الرغم من الألعاب التي يمكن أن تخترقه من النظام أو من أتباعه أو من ذوي المصالح والعصابات المالية المستفيدة والمافيا التي سماها المرحوم بوضياف: المافيا السياسية-المالية La mafia politico-finacière يأتيك الجواب اليقيني: ستظل سلمية ولن نمنح للنظام الريعي المتهالك وللعصابة، قشة النجاة. وحتى عندما يُستحضر المثال السوري، يأتيك الجواب أيضا صارما ويقينيا، أن البنيات تختلف على مستوى التجربة النضالية والتكوينات المجتمعية الثقافية والدينية، وطبيعة الجيش الوطنية مهما اخترقتها المصالح المختلفة على مستوى القيادات العليا. لكل حراك خصوصيته. الخطر الوحيد والكبير الذي يتهدد الحراك الجزائري، هو الطلاق النهائي بين القوتين الكبريين: الأمن العسكري والجيش. الأول أصبح تابعا للرئاسة بدل وزارة الدفاع، منذ أن غير النظام بنيته الداخلية للمزيد من الحكم والاستمرار بيد من حديد ضد كل من يخرج أو يرفع رأسه. والثاني أي الجيش، يرفض أن يدخل في المعترك السياسي وفي الوقت نفسه يحمل على عاتقه أمن البلاد وحمايتها. ما يزال حتى اللحظة مرتبطا بالدستور أكثر من الكثير من السياسيين. فقد أكد نائب وزير الدفاع الفريق قايد صالح، من خلال تصريحاته الدورية وقبل يومين فقط ارتباط المؤسسة العسكرية بالدستور، أو ما تبقى منه، والانصياع للمطلب الشعبي بإدراج المادتين السابعة والثامنة إضافة إلى 102 من الدستور في إيجاد الحل التوافقي والدستوري. الخطير أنه صرح أيضا باكتشاف مؤامرة؟ تستهدف زعزعة أمن البلاد، وتدمير بنية الجيش. المشكلة أن هذا الإعلان الخطير يحتاج إلى دقة وتوضيح. المسؤولون الجزائريون يشتغلون دوما بنصف الحقائق؟ من هذه المجموعة المشكلة للعصابة؟ إذا صحت الأسماء التي تم تسريبها، فالوضع شديد الخطورة وتكون الجزائر مقبلة على مرحلة يعلم له وحده مآلاتها؟ ذلك يعني ببساطة أن أجنحة النظام المالية والسلطوية المتناحرة ستدخل في قتال باستعمال البشر كلحم للمدافع. تاريخنا الحديث سار دوما على نفس الوتيرة. لم يمت واحد من أباطرة المال والنهب والحكم، في العشرية السوداء، سواء من السلطة أو من الإسلاميين، بينما خسرت الجزائر أنبل وأجمل أبنائها، وأهم إطاراتها، في حرب لم يستفد الشعب منها أبدا، ولكن تم من خلالها، ترتيب ورسم خرائط المصالح التي دخلها أناس جدد لم يعانوا أبدا من مرحلة القهر والاغتيالات والعنف، ولم يبنوا شيئا بمالهم أو ما يسمى استثمارات. دخلوا بمال الدولة وربحوا على ظهرها، وكونوا امبراطوريات مالية جهنمية، وكل من احتج انتهي إلى السجون والموت. آن الأوان أن يتوقف هذا الظلم. وأن يخرج الساسة من الحسابات السياسوية الصغيرة، وينتبهوا إلى أن الوطن كله على بركان من نار الفتنة. الخطر حقيقي، ليس على المجتمع المدني وحده، ولكن على البلاد كلها التي ستدخل في دوامة شديدة الخطورة. مما يفتح الباب على مصراعيه للتدخلات الأجنبية، فتخرج إلى الواجهة كل المعضلات الثقافية، والاثنية والدينية والحداثية التي لم تحسم. القوى الاستعمارية الحديثة وبعض الأنظمة الجهوية التي أصبحت اليد العربية المنفذة ميدانيا، لا تنتظر إلا هذا، من أجل توطين الحركات الإرهابية المشتتة بعد هزيمتها في مختلف بلدن الربيع العربي الدموي، والزج بالبلاد نحو ظلام دامس. هذه اللوحة يراها شباب الحراك اليوم ويعونها جيدا. فهم مصممون على الذهاب بعيدا، أبعد من العهدة الخامسة، باتجاه إزالة النظام الريعي نهائيا وكليا. وسنكون تبسيطيين إذا تخيلنا أن النظام سيختار الذهاب بقرار فردي أو جماعي. فهو مترابط عضويا ومصلحيا بالبلاد وخارجها، الأمر الذي يجعل المخاطر حقيقية لفتح أبواب جهنم، لهذا وجب التنبه لها. هل من حل انتقالي سريع يفوت الفرصة على الذين يتربصون بالبلاد شرا؟ هل يفهم النظام، إذا بقي فيه شيء من الوطنية التي تغنى بها على مدار أكثر من ستين سنة، أنه آن الأوان أن يمهد لانتقال سلمي سريع للبلاد، بالتخفيف من عناء الشعب؟ نعم الدستور حل ولو أنه خيط على مقاس العقل الضيق الذي خلقه. وأن المواد 7، 8، و102 مفيدة، لكن يجب تنقيح وتدعيم ذلك بالتفكير في لجنة مستقلة تشرف على الانتخابات الرئاسية، وألا يوكل الأمر بشكل أعمى للجهات السلطوية، برلمانية كانت أو مجلس دستوري، أو غيرها، فهي تحتاج إلى جهاز أكبر منها، يراقبها باعتماده على رجل قانون وشخصيات كفؤة؟ لا حل آخر لتفويت الفرصة على المقامرين بالبلاد الطين يستعدون لفتح أبواب جهنم التي لا يملك أحد مفتاح غلقها.