إن اختيار الحراك الشعبي شعار الولاء للوطن لا للأشخاص, لا ينبغي أن يظل مجرد شعار يتردد في المظاهرات ويرفع على اللافتات , و إنما ينبغي أن يتحول إلى مبدإ أساسي من مبادئ الجمهورية الجديدة , بحيث يصبح الوطن فوق كل الاعتبارات الشخصية , المهنية , السياسية , الحزبية ... و ما إلى ذلك من أغراض إيديولوجية فئوية أو جهوية أو دينية. فالدين في مجال الولاء للوطن , يعلمنا أن لا فرق بين عربي و عجمي إلا بالتقوى , وفي مجال الوطنية ؛ أن لا فرق بين جزائري و جزائري إلا بالتضحية؛ وفي مجال المواطنة؛ لا فرق بين مواطن وآخر إلا بالعمل والحرص على الواجبات بنفس الحرص على الحقوق . وفي الموروث السياسي الجزائري المعاصر, لخص أحد السياسيين مفهوم الولاء للوطن في مقولة مشهورة ما زالت متداولة إلى اليوم عندما صرح قائلا : "لو خيروني بين الجزائر و الديمقراطية لاخترت الجزائر", هذه مقولة اشتهر بها المرحوم سليمان عميرات رئيس و مؤسس الحركة الديمقراطية للتجديد الجزائري في بداية التسعينيات و الذي توفي بعد 30 شهرا من تأسيسها و قبل أن تتفاقم الأوضاع الأمنية في الجزائر, وكأن القدر أراد للمرحوم أن يبقى وفيا لخياره "الجزائر" . والآن بعد حوالي عقدين من الزمن ما زال الخيار مطروحا بالنسبة لكثير من الجزائريين , لكن في صيغ مختلفة , تقدم الوصول إلى السلطة , الحصول على جنسية غربية , التنكر للهوية و الثوابت الوطنية , الشهرة الشخصية, المستقبل المهني, والمكانة الاجتماعية , الرفاه العائلي , و ما إلى ذلك من مزايا ذاتية, يقدمها بعض الجزائريين ممن يصفهم و يصنفهم الإعلام ضمن النخبة, أي من الانتليجانسيا , يقدمونها على الجزائر التي ضحى من أجل تحريرها مليون ونصف مليون من خيرة أبناء الجزائر , والذين لولاهم لما تمتع اليوم هؤلاء بصفة "النخبة", ولما كان لهم من خيار سوى خيار "الأنديجان" . لقد أجرت منذ يومين رئاسة الدولة مشاورات مع الشخصيات الوطنية والأحزاب السياسية والجمعيات بينما قاطعها معظم المدعوين بحجج مختلفة. وقد تتبعت ككل الجزائريين والجزائريات عبر وسائل الإعلام المختلفة, بعض تصريحات المشاركين و المقاطعين لهذه الجولة من المشاورات, وحاولت إيجاد قاسم مشترك فيما أدلى به هؤلاء و أولائك, فتبين لي أن كلا الطرفين يريد توظيف الحراك الشعبي وفق ما تقتضيه مصالحهما السياسية, الاقتصادية و الاجتماعية و تفرعاتها و الإيديولوجية و حتى المهنية و الشخصية , و هذا التنوع في الولاء و إن أفاد في تنشيط الحياة السياسية و توفير المادة الأولية لمختلف وسائل الإعلام التي تزيد الوضع غموضا و ابتعادا عن الولاء للوطن وحده ,مما قد يؤدي من جهة أخرى إلى تشتيت جهود الأطراف المعنية بمعالجة هذه الأزمة السياسية , و بالتالي تمييع مطالب الحراك الشعبي برمتها, و هدر جهود كل المجتهدين لإيجاد مخرج؛ أرضيته المواطنة و سقفه الولاء للوطن . إذ لا يمكن لعاقل أن يدعي بأن كل ما اشتمل عليه الدستور الحالي غير صالح ويجب وضعه جانبا, كما أن الخوض في جميع قضايا (تأسيس الجمهورية الجديدة) دفعة واحدة ,من أجل استغلال الفرص السانحة جراء شغور السلطة أو ارتجال مواقف و آراء آنية , هو سلوك لا يمت إلى روح المسؤولية بصلة , كما يعكس قيمة الدستور و مكانة دولة القانون لدي هؤلاء المتعجلين للإمسكاك بمقاليد وطن لم يقدروه حق قدره بدليل إصرارهم على الولاء لأحزابهم, أو لمناصبهم أو مكاسبهم أو طموحاتهم الشخصية ...بدلا من الولاء له . ومن هذا المنظور لمجريات المشاورات السياسية, ومناورات المعارضة و تشبث السلطة والحراك بمواقفهما, نعتقد أن تبني جميع هؤلاء مقولة المرحوم سليمان عميرات سيتيح إمكانية انفراج الوضع, وتبني هذه المقولة تفرض عليهم , أن يعتبروا أنفسهم مواطنين و يفكروا كمواطنين بسطاء فيما يقترحونه من حلول, وأن يضعوا مناصبهم و وظائفهم و مسؤولياتهم و مكانتهم جانبا, لأن كل هذه الصفات زائلة و صفة المواطنة باقية , و مراعاة هذه الصفة كفيلة وحدها بصياغة مخرج توافقي يضمن حقوق الجميع , لا حقوق الفئات أو الجهات , أو الأشخاص . فالوطن و المواطنة دائمان والمناصب و المكاسب زائلة.