إن تركيز بعض التغطيات الإعلامية على نشاطات بعينها التي يبادر بها نشطاء الحراك الشعبي , يعطي الانطباع بأن الإعلام يسعى إلى تسويق صورة إيجابية عن المشاركين في الحراك , و هو أمر مقبول حتى عندما يكون الهدف منه استقطاب الوسيلة الإعلامية لجموع المتظاهرين , و حتى تعاطفهم و تضامنهم إذا اقتضت الضرورة لرفع نسبة المقروئية أو المشاهدة , و لكن ما يشغل البال أكثر , يكمن في مدى مشروعية هذا النشاط أو ذاك ؟ بمعنى هل تم احترام كل ما يتطلبه من إجراءات قانونية و احتياطات وقائية و الحفاظ على النظام العام , و عدم تجاوز الحدود إلى درجة المساس بحقوق و حرية الآخرين و مصالحهم الحيوية ؟ , و لكن التساؤل الجوهري يبقى في الأساس حول المرجعية الثقافية و القيمية و الأخلاقية لما تسوقها وسائل الإعلام عن مبادرات المشاركين في الحراك الشعبي ؟ هل هي مرجعية جزائرية أم أنها مرجعية فيسبوكية , أم أنها خليط بينهما ؟ الإجابة عن هكذا تساؤلات , قد تحتاج إلى دراسات أكاديمية محكمة , لكننا في مجال الرأي , يمكننا القول بأن أي تحرك «سياسي» هو نتاج للثقافة السياسية السائدة , و كنا قد عبرنا مرارا عن رأينا في هشاشة الثقافة السياسية في الجزائر شكلا و مضمونا ؛ فمن حيث المضمون عجز السياسيون عن إنتاج مشروع مجتمع قادر على فرض نفسه و مواجهة مشاريع منافسة , كما فشلوا في صياغة خطاب سياسي ينفذ إلى وعي المواطن و يساعده على فهم وضعه كفرد كامل الحقوق و إدراك أوضاع مجتمعه و ما يترتب عنها من واجبات . و بدلا من تكوين مناضلين أنضجتهم الثقافة السياسية للدفاع عن مشروعهم السياسي , اكتفى السياسيون باستئجار خدمات أتباع للقيام بأدوار و مهام مؤقتة في مواعيد معينة أو في ظروف خاصة كالتي تمر بها البلاد حاليا . أما من حيث الكم و الشكل , فقد سجل الملاحظون, أنه من بين أكثر من سبعين حزبا سياسيا تم اعتماده في الجزائر في عهد التعددية الحزبية , لم يكن عدد الأحزاب ذات التمثيل النسبي ضمن الهيئة الناخبة يتجاوز أصابع اليد , مما جعل وسائل الإعلام تتعامل باستخفاف مع معظمها ,لكونها لا تمثل إلا نفسها. و لأن التعددية الحزبية «الفوضوية» جعلتنا نمارس الثقافة بلا سياسة، ونشتغل بالسياسة بلا ثقافة, سيطرت الرداءة واستفحلت في كافة أجهزة المجتمع وتميعت الممارسة السياسية، مما فتح المجال واسعا أمام كل من هب ودب للحديث باسم المجتمع , لتتولي وسائل الإعلام بنشر هذه الرداءة على نطاق واسع و تسويقها على أنها تعبر عن موقف الرأي العام «الجزائري», حتى عندما يكون محتواها مسيئا للثقافة الجزائرية و لقيمها الوطنية و الروحية , و مناقضا لسياستها , و مشوها لتاريخها ,الأمر الذي لا يخلو من خطورة على انسجام المجتمع و استقراره . و قد عاشت الجزائر تجربة مريرة خلال العشرية السوداء , عندما ساد تحكيم الهوى و ركوب الفوضى , و غابت السياسة الثقافية , و الثقافة السياسية على حد سواء . من المسلمات المعترف بها حتى من طرف من تحملوا مسؤوليات القطاع الثقافي , أننا لا نمتلك سياسة ثقافية. و بالتالي فإن الارتجال يبقى في غالب الأحيان سيد الموقف في تسيير الشأن الثقافي. و هذا سواء كان على رأس القطاع من يسمون بالتكنوقراط و الذين يتعاملون مع الثقافة بذهنية و أدوات الإداريين بعيدا عن أي رؤية ثقافية أو عمق اجتماعي. أو كان على رأسه متحزب فيحصر دورها في نطاق رؤيته السياسية و بما يعود بالنفع على مذهبه الإيديولوجي فتضيع الثقافة بين العمل الإداري والهوى الإيديولوجي , مما يفتح الباب واسعا للخلافات ذات الصلة بالهوية و مقوماتها وهو خلاف مزمن حتى عندما تحصره نصوص دستورية و تضمنه قوانين أساسية , لأن الهوية يحكمها صراع بين سلطتين إحداهما يمثلها النظام , أو رب العمل , أو رب الأسرة , أو قائد الجيش , أو كل ذو سلطة , و التي تريد فرض التماثل بين أفراد المجتمع أي هوية واحدة موحِّدة , و يمثل السلطة الثانية , أفراد المجتمع أو المجموعة الذين يبحثون عن التمايز و الاختلاف عن الكل , بالتمرد على السلطة الأولى , أو التفوق عليها بحثا عن هوية أفضل , و بالتالي فإن الصراع دائم بين القوتين , بين «كل» يريد الهيمنة , وبين «جزء» يريد الخروج من إطار هذه الهيمنة فالإشكال يكمن في هذه العلاقة التصارعية بين القوتين , و التي يزيدها التعصب الإيديولوجي و ضعف الرصيد الثقافي تأججا و حدة . غير أن هذا لا ينفي وجود قواسم مشتركة بين عدد كبير من أفراد المجتمع , تضمن حدا أدنى من التوافق , يؤدي إلى غلبة «التماثل» و قبوله من طرف مجموعة كبيرة من أفراد المجتمع رغبة أو رهبة , و لكن في وجود أقلية رافضة للتماثل , و التي غالبا ما تستغل المراحل الانتقالية لمحاولة فرض حضورها , من خلال الدفع بممثليها ليس لتمثيلها «كأقلية» و لكن لتسيير و الإشراف على المرحلة الانتقالية برمتها ؟ فهل يرضخ الحراك لإرادة هذه «الأقلية الساحقة»؟