قد تكون الحملة التي تشنها العدالة حاليا على الفساد و على المتورطين في قضايا فساد , بالحجم و الكثافة التي لم تشهدها دول أخرى , نتيجة عوامل و ظروف خاصة بنظام الحكم في الجزائر , و جراء تراكم ملفات شبهة الفساد لدى جهات التحقيق المختلفة الأمنية منها و القضائية , و التي كانت تحال على الحفظ غالبا , لأسباب سياسية , لارتباطها بمسؤولين سامين في الدولة ... غير أن هذه الحملة , لا تمنح الأعذار لبعض الأقلام لمباشرة حملة موازية «لجلد الذات» , و تقديم البلاد على أنها رائدة الفساد و موطن الفاسدين , لأن انخراط رجال المال و الأعمال في النشاط السياسي و من ثم في نظام الحكم أو العكس انخراط السياسيين في عالم المال و الأعمال , قد أصبح أمرا واقعا رغم أنه لا يتفق و أخلاقيات الممارسة السياسية التي اعتمدت دائما على الأفكار و البرامج و خدمة الصالح العام , بعيدا عن المصلحة الخاصة و عن تدخل المال و إغراءات رجال الأعمال , فضلا عن أن المعروف عن هؤلاء, أنهم ليسوا أسخياء في الإنفاق على النشاط السياسي بخلاف السياسيين في مجال الاغتراف من المال العام . أن سعي كليهما إلى الحكم و السلطة ,إنما هو من أجل حماية و مضاعفة ثرواتهم الشخصية . و عندما نستعرض مختلف التجارب الأخرى التي تقلد فيها رجال الأعمال مناصب سياسية , نلاحظ أنها تميزت كلها بشبهات فساد و منازعات قضائية و غالبا ما تنتهي باستقالة أو إقالة المسؤول المعني و حتى الحكم عليه غيابيا بالسجن . و لعل من الأمثلة البارزة في هذا المجال , مثال الملياردير الإيطالي سيلفيو برلسكوني الذي شغل مقعدا في مجلسي النواب و الشيوخ الإيطاليين على التوالي لمدة عقدين من الزمن , و تولى رئاسة الحكومة الإيطالية على مدى 10 سنوات موزعة على ثلاث فترات بعد أن تقلد عدة حقائب وزارية بعضها بالنيابة . و إلى جانب ذلك أنشأ برلسكوني شركة استثمارية و أخرى إعلامية تحت اسم مدياسيت التي تعتبر أكبر محطة بث تجارية في إيطاليا فضلا عن امتلاكه نادي أي سي ميلان الرياضي , ليصبح بذلك سابع ثروة في بلاده تتجاوز 6 ملايير دولار إمريكي .الأمر الذي لم يبعد عنه شبهة تداخل المصالح , و من خلالها شبهة الفساد التي كانت وراء متابعته قضائيا في حوالي 20 قضية استطاع التملص من تبعات معظمها باستثناء إحداها التي كلفته إدانة بجريمة الغش الضريبي في قضية ميدياسيت المذكورة , و تسليط عقوبة ب4 سنوات سجنا مع حرمانه من تقلد أية مسؤولية مدنية , و هي العقوبة التي كلفته فقدان عضويته في مجلس الشيوخ .و إلى جانب قضايا الفساد , تورط برلسكوني في عدة فضائح أخلاقية نالت من سمعته و من مكانته السياسية و الاجتماعية. و ما تعرض له برلسكوني , تعرض له كذلك نظراؤه في بلدان أخرى و لو بأشكال متفاوتة , مثلما حدث لرجل الأعمال التايلاندي تاكسين شيناوترا الذي فاز في الانتخابات و شغل منصب رئاسة الوزراء لمدة 6 سنوات قبل الإطاحة به في انقلاب عسكري و هو في نيويورك لتمثيل بلاده في جمعية الأممالمتحدة , و لم ينج هو الآخر من شبهة ضلوعه في قضايا فساد كانت سببا في احتجاجات شعبية ضده و في الأزمة التي أطاحت به و جعلته يبتعد عن الصفوف الأمامية في المعارك السياسية ببلاده. نماذج محلية و في القارة الإفريقية , يمكن تقديم حالة الرئيس الملغاشي الأسبق مارك رافالومانانا صاحب مجموعة أم بي أس للإعلام الذي استطاع أن يفوز برئاسة بلدية العاصمة الملغاشية و منها إلى رئاسة البلاد بين 2002 و 2009 قبل أن تضطره أزمة سياسية إلى الاستقالة و تسليم مقاليد السلطة لمجلس عسكري خلافا لما ينص عليه دستور البلاد . و يغادر مدغشقر ليستقر في منفاه بجنوب إفريقيا , و في الأثناء فقد معظم ثروته في الأحداث التي صاحبت تركه الحكم , و التي تسببت أيضا في مقتل حوالي 30 ملغاشيا من معارضيه أمام القصر الرئاسي أياما قبل استقالته من منصبه , و كانت سببا في محاكمته غيابيا و صدور حكم ضده بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة و إصدار أمر توقيفه . كما أن سجل السياسيين المتابعين بشبهات الفساد غني بأسماء من جميع القارات ,مثل جاكوب زوما الجنوب إفريقي المتابع في بلاده في قضية بشأن» رشاوى في صفقة أسلحة بمليارات الدولارات مع شركة «تاليس» الفرنسية، التي أشرف عليها كنائب للرئيس». و الفرنسي برنار تابي المتهم بالاختلاس المنظم من بنك»قرض فرنسا» و مواطنه الرئيس الفرنسي الأسبق المتابع في عدة قضايا فساد منها الحصول على تمويل غير قانوني لحملته الانتخابية , و من ماليزيا متابعة رئيس الوزراء السابق نجيب رزاق في قضية اختلاس أموال من صندوق الاستثمار للدولة , و من باكستان رئيس الوزارء المخلوع نواز شريف المحكوم عليه مع ابنته بالسجن في قضايا فساد , و في الوطن العربي تمت متابعة العديد من الرؤساء من أمثال حسني مبارك و ابنائه , و زين العابدين بن علي و عائلته ,و عائلة معمر القذافي , و صدام حسين و عمر البشير ... كان هذا غيض من فيض , من السياسيين و رجال المال و الأعمال الذي اقتحموا معترك السياسة عبر دول العالم , منهم من صمد و واجه جميع الشبهات , و منهم من تخلى و استسلم لينجو بجلده , و منهم من ينتظر الفرص ليجرب حظه . و مع كل هذه التجارب قد يتطلب الأمر عرضها على البحث الأكاديمي و المنهجي , لوضع دليل لمساعدة السياسيين و رجال المال على التمييز بين حدود الصالح العام و حدود المصلحة الشخصية , ما دامت الحدود القانونية لم تعد كافية . و هكذا نلاحظ أن الجزائر ليست بدعا بين دول العالم في ظل النظام الاقتصادي العالمي الحالي المتميز بتجمع ثرواته بين يدي ثلة من الأثرياء ؟ و هو الثراء الفاحش الذي يؤشر على الفساد «المقنن»؟ و يمثل تهديدا خطيرا على استقرار و أمن البشرية ؟ إذ معظم الثورات الشعبية في التاريخ كانت ثورات الفقراء و البؤساء ضد الأثرياء و الإقطاعيين ؟ ألم يوصف كانزو المال و جامعوه من أمثال فرعون و قارون وهامان و النمرود بالفساد ؟ و بالتالي , الا يوجب ذلك توسيع مكافحة الفساد ليشمل النظامين المالي و الاقتصادي العالميين ؟