كنا قد أشرنا في خضم ما تشهده البلاد من حراك شعبي منذ 22فبراير الماضي ,إلى أن هذا الحراك متعدد من حيث الفئات المشاركة فيه , و من حيث المستويات الثقافية , و الانتماءات السياسية , الأوضاع الاجتماعية و المهنية و التوجهات الفكرية و غيرها من التفرعات المتباينة المتعلقة بالمواقف و الآراء و الدوافع , الأمر الذي يجعلنا أمام حراك جامع ظاهريا "شعبيا", لكنه متعدد في جميع خصائصه الأخرى . و من طبيعة هذا النوع من الحراك , أن مطالبه لا تقف عند سقف محدد , لأن وقوفها يعني انتهاء الحراك بكل بساطة , و لو مع استمرار الاحتجاجات المطلبية المختلفة المحدودة من حيث حجم المشاركة و من حيث الأمكنة. فالملاحظ أن مساهمة هذا الحراك ظلت مقتصرة على صياغة المطالب و رفع الشعارات الرافضة لقرارات السلطة ممثلة في الرئاسة و الحكومة , أي أن الحراك الشعبي اكتفى بردود الفعل , لا بالأفعال , لافتقاره إلى قيادة و خريطة طريق و إلى اقتراحات سياسية واقعية قابلة للتفاوض حولها . هذا الشغور في قيادة الحراك فتح الباب واسعا لأطياف الموالاة والمعارضة الحزبية و الجمعوية, لمحاولة ملء الفراغ بمبادراتها المعهودة , و قد تعددت هذه المبادرات إلى الحد الذي احتاج أصحابها إلى من ينسق بينهم , ثم إلى هيئة وساطة تجمعهم حول طاولة الحوار , ثم حول خيار الحل الدستوري و العودة إلى المسار الانتخابي , الذي عطلته التجاذبات السياسية على مدى 6 أشهر تقريبا. و بخصوص تقييم نتائج الحراك , أضطر إلى التذكير بالمعاني اللغوية لكلمة حراك التي ذاع استعمالها مرة بفتح الحاء و مرة بكسرها , و لم يبق سوى ضم الحاء لتكتمل صيغ هذه الكلمة , و المعروف عند اللغويين أن وزن "فَعالِ" يستعمل لصياغة اسم فعل بمعنى "اِفعل" , مما يسمح بتفسير كلمة "حَراكِ" بفتح الحاء و كسر الكاف , بأنها تعبر عن اسم فعل بمعنى تحرك ...و هو معنى جائز كونه يعبر عن مطالبة الشعب بالتحرك , و هو ما تولت جهات مجهولة القيام به عبر مواقع التواصل الاجتماعي كما هو معلوم للجميع ... كما تستعمل صيغة "حِراك"بكسر الحاء , و هو الأصح لغويا للدلالة على التظاهرات الشعبية , لأن صيغة "فِعال" , تدل على التدافع بين قوتين متضادتين "أي حركة ضد حركة أخرى , "مثل صراع و نزال وعراك " و هو ما يصح أيضا على المظاهرات الأسبوعية التي تتواصل عبر بعض ولايات الوطن ..., و تبقى الصيغة الثالثة بضم الحاء أي حُراك, وهي غير مستعملة في حدود علمنا بالنسبة لجذر "ح ر ك« و لكنها مستعملة بالنسبة لجذور أخرى للدلالة إما على الصوت "نُباح" أو المرض "صُداع"... و ما دام الحراك الشعبي قد لخص مطلبه في التغيير الجذري للنظام , دون أن يعين قيادة تؤطره , أو آليات تجسد مطالبه , فقد تعرض لمحاولات الاستحواذ عليه من طرف القوى السياسية و الجمعوية المهيكلة سلفا و التي نصبت نفسها متحدثة باسمه عبر مختلف وسائل الإعلام , و من خلال المبادرات التي تقدمها باسم شخصيات بخلفيات إيديولوجية مختلفة , تجنبا لرفضها من الحراك الشعبي الذي أبدى حساسية مفرطة ضد كل ما له صلة بأحزاب المعارضة , خاصة و أنها سجلت عجزا متتاليا في بلورة رؤية مشتركة لدعمه رغم اجتماعاتها المتكررة و بياناتها المترددة . و بالتالي , ما دامت الأحزاب قد استغلت الحراك بشكل من الأشكال , فإننا مضطرين إلى استعمال الصيغة الصرفية الثالثة لكلمة حراك, لأنه في هذه الحالة فسيتحول إلى مجرد "صوت" كصُراخ أو إلى نوع من أمراض الحركة , أي "حُراك" كرُعاش , و للحراك الخيار بين الصيغ التي يرتضيها لنفسه , و بحسب نتائج المسار الانتخابي تكون الصيغة و يكون التقييم .