صديقي العزيز محمد بوليفة. صباح الخير اليوم وغدا، ودائما، من هذه الدقيقة، وقبلها، إلى غاية الآخرة. كيف حالك حيث أنت ؟ ، كان يجب أن أكتب عنك قبل أسبوع في ذكرى رحيلك السابعة، لكني كنت مرهقا ومحبطا، وكنت أجري تحاليل وفحوصات دقيقة لأني مصاب بعدة أوبئة معقدة وأوهام مستعصية تعرفها جيدا. ستفتك بي هذه الأوبئة التي لا أدري كيف تجاوزتها أنت وأديت تلك الأغاني البنفسجية التي ما زالت ترنّ في الذاكرة كأجراس الكرز في تاكسانة، القرية التي أنجبتني خطأ ذات شتاء ، .. كنت غير آبه بأحد، كما لو أنك كنت تعيش في بعد آخر، البعد الحادي عشر مثلا، كما لو أنك كنت أكبر من الجميع، ومن بؤس الوطن الذاهب إلى العمى معجبا بتوغله في المقصلة. سأصارحك للمرة الأولى، ولتعذرني لأنك تعرف هشاشتي الوراثية، وتعرف الملح الذي بيننا، والقهوة والعافية، والتسكع والخبز اليابس والمحنة والفضيلة. عندما تهاتفنا لآخر مرة ، كنت في الطريق إلى وهران ، أوقفت السيارة وبكيت بحرقة. استنتجت من صوتك الخافت أنك لم تعد من هذه الدنيا، أنك راحل إلى هناك، وقلت لك وقد امتلأت أسى: هل آتي إليك اللحظة؟ هل أنت بحاجة إلى مال أو إلى شيء ما؟ ،، ثمّ لم أحضر جنازتك لأني كنت عليلا جدا، ولا أتحمل دفن الأصدقاء والملائكة، ولن أتحمل ذلك أبدا ، كنت سأشعر بأني مذنب لأني أخفيتك تحت التراب وعدت إلى البيت كما لو أني لم أرتكب أية حماقة، أو أني معجب برحيل الأنبياء من كون متفسخ كجثة حديثة العهد، وكضمادة مقززة تشبه هؤلاء الذين يحيطون بنا منذ فجر الخليقة ، أي أغلب أولئك وهؤلاء. هل فهمت، أنت الذي ظللت تفهم صمتي وكلماتي النحيلة في البيت وفي رحلاتنا الطويلة إلى وهران و جيجل والوادي وبسكرة ؟ . كيف أكتب عن روحك الجليلة بهذه الألفاظ العمشاء التي حفظتها في المدرسة ورتبتها كفيلق من الأحذية القديمة؟ ، كما لو أني أسيء إليك بلغتي التي لا أجنحة لها، لا رمّان لها ولا هيئة لائقة. يلزمك قاموس رباني آخر يقبض على خصالك وفضائلك وألحانك العذبة، علامات من وحي جدتنا الفراشة. ما أتعس معجمنا واستعاراتنا، وما أفقر أخيلتنا التي توارثناها عن الكسل الذهني. أعترف بأني قصرت في الكتابة عنك لأنك تستحق أن نكتب عنك بحبر القلب المدمّى، وببعض الدم الفصيح الذي لم تلوثه المرحلة الرعناء التي هزمت الجمال فينا. لقد تركت لنا مآثر لا تفنى وذهبت إلى هناك مطمئنا، كما لو أنك عفتنا جميعنا، بالنقطة والفاصلة. أتعبناك بجعجعتنا، بسلبيتنا، بعدم الدفاع عن الأغنية الراقية، تاركين المجال للوسخ الذي سيغدو حرفة مقدسة، كنت محقا جدا في حديثك معي. أعرف أنك تسمعني لأني أسمعك بالحس والحدس وما تيسر من الغربة. لقد أصبح الفن القذر قدرنا نحن التائهين في أرض الرب، بلا وجهة، وبلا معنى، وبلا مروءة، وبلا لحن أخضر يشعل الشموع التي أطفئت في وجوهنا، بعد أن أشعلتها أنت بعبقرية فذة. لم تعد الأغنية أغنية، ولا اللحن لحنا. لم يعد المطرب مطربا، ولا الإنسان إنسانا. لم تعد الكلمات نبية من قوس قزح، أو حقلا من البهجة و السعادات الصغيرة التي تشبه حبات الأرز في البطاقة البريدية. لقد أخذت نعمتك معك، أخذت عناقيد النجوم التي كانت تتلألأ في حي العناصر بالعاصمة، حيث أقمنا أعواما في الطابق الحادي عشر الذي كان يجب أن يصبح مزارا. أخذت معك نهاراتنا القديمة التي كانت من ضوء الله في البرية، من التوت والعليق، من شهد العسل وأناشيد النبتة وحرير القصيدة المضيئة، وهكذا لم نعد شيئا ذا قيمة مذ ذهبت خلسة إلى جهة ما وتركتنا وحدنا. أصبحنا لعنة من فرط اليتم، من كثرة الوحش، ومن شدة الوحشة العارمة التي قوّضت الأمل فينا. الحق الحق أقول لك : لقد أنجبتك الجزائر استثناء لتفاخر بك الآخرين في حقبة ما أقل وسخا من هذه، هكذا قرأت مرارا في كتاب الحكمة، ثمّ أنجب الحمقى أرتالا طويلة من الحمقى، وخلّف الزنيم الكبير الزنيم المربع والأخرق. وها هم يملأون الوطن كذبا وموتا. أنبئك صديقي بأن هذا الوقت الأقرع وقتهم وليس وقتك أبدا، ونفط الصحراء نفطهم وليس نفطك أنت، والوطن وطنهم من الألف إلى الياء، والحياة لأولادهم ولمن انبطح لهم جيدا، كما لو أنهم، كما لو أنّ. بئس المرحلة، وبئس الخبر والمبتدأ وأنياب القبيلة التي صنعت هذا العمى، اللعنة عليهم ثم اللعنة.، هل أدركت هذا المسخ فهربت قبل الزلزلة العظمى التي أربكت عيوننا؟ ، لقد نجوت إذ لململت أوتارك وعودك وقلت إن الأيام أيامكم فكلوها بلحم الخنزير والكمون والدود والهرطقة، لا شأن لي بكم يا من مات فيكم الحياء وحرف البسملة. يقول لك صديقك، الشاعر الجليل سليمان جوادي الذي غنيت له أبهى الألحان، سليمان الذي كتب بالقطن والنسغ كما يفعل الصوفي في خلوته النائية: " محمد صاحبي...قد أطلت الرحيل...أطلت الغياب...وأوغلت في البعد...سافرت لم تنتظرني...وتدرك أني بدونك...أشعر بالاغتراب...وتدرك أن الصداقة بعدك...محض سراب...وأن الأزقة بعدك...محض خراب...وتعلم أنك لي مذ عرفتك...كل الحبة...كل الصحاب...محمد عد...فأنا اليوم جد حزين...وجد يتيم...يحاصرني الاكتئاب...محمد عد...فالديار التي لست فيها يباب...محمد عد...وكفاك مكابرة وعنادا...فسرب الطيور... الذي كان يملأ جو العناصر عاد...تعال تعال مع السرب...وابسط جناحيك على الظلام...الذي ظل يسكنني...مذ رحلت يفارقني...فتعود البلاد بلادا...يعود العباد عبادا...محمد عد...علني أستعيد اتزاني...وعلني أرمم...بعض الذي انهد من عنفواني...محمد عد...فالقصائد دون تقاسيمك ميتة...والمعاني ضباب...محمد عد...فالأغاني التي لا توشحها...من عصارة روحك مزعجة...واللحون التي لا تؤلفها أنت...لا تستطاب...محمد عد...لأم اعد أتحمل هذا العذاب...وما عدت أفهم هذا الحضور...الغياب". أماّ أنا فأقول لك تريث قليلا يا صديقي ولا تعد الآن تحديدا. لم يحن الوقت بعد. لا تخطئ حتى لا تصبح عقب سيجارة تحت الأقدام المهووسة، أقدام الجاهل والمتنكر والنطيحة والمتردية. بي حنين كبير لأيامنا، وشوق إليك، وفي الأعماق غصة لأنك لست بيننا الآن والبارحة، لا تخلل المكان باللحن، بالكلمة القادمة من عشّ البهجة، وبعطر البلاغة. اشتقنا إليك كثيرا جدا. مع ذلك من الأفضل أن ترتاح في مقامك الزكي.لا ترجع إلى هنا حاملا معزوفاتك التي طالما رددناها بفخر لأنها كانت زكاة جارية وحقلا من الأعياد، أعيادنا نحن حيث حللنا. أمّا اليوم فقد فسد كل شيء وكل ذي رجلين ودين ومبدأ، بما في ذلك الكلب والقط والديك والياسمين، فسد الناس الذين عرفتهم في العاصمة وأصبحوا طبولا، وهاجر الزعتر إلى الخلاء. ضاعت أماكننا القديمة في الزحام وتقطعت بنا السبل، وها نحن هنا وهناك في مدن اليباب نجرّ خيباتنا. مات شارع شاراس منذ مدة، ماتت جلساتنا في"القبة" واختفى "الدّا مزيان" وغار حراء والنفق الجامعي الذي تعرفه في هيئة أخرى. ذهبوا كلهم إلى النسيان أو إلى المنفى. لم يعد لشارع باستور أيّ نكهة، مطاعمنا، علاماتنا الشامخة التي طالما صنعناها واتخذناها متكأ جليلا، أزقتنا الصغيرة التي كانت ممتلئة بنا، بالموسيقى والقصص الفاتنة، بالحياة والفتوة. توفيّ مقهى اللوتس الذي جمعنا، القمر الأحمر، لامادراك، برج الكيفان، ولم يبق سوى أصدقائك الذين لا يجدون مكانا نظيفا يستقبلونك فيه ويصلون صلاة العودة،ثم يقصون عليك بحزن شديد ما حصل بعد غيابك، كيف عاشوا فائضين عن الحاجة في وطن كسيح، وكيف ضجت المواقف بالأوبئة ومات عبق الورد فينا. محمد: باسم الربّ والفن والصداقة وشهد اللحن، باسم البيت الذي جمعنا، وباسم تقاسيم العود، لا ترجع غدا. سيقولون لك الأنذال من أنت؟ ، كما قالوها لك قبل الاختفاء، وكنت معك شاهدا. سيقول لك المطربون الذين يغنون كلمات لها رائحة البيض الفاسد: ماذا قدمت ومن تكون؟ وسيضحكون عليك دون هوادة، كما يضحك القرد في هذه الجغرافيا التي أنهكت ظلالنا. لقد حدثتني مرارا عن انحطاط الذوق في وطن ذاهب إلى حتفه، عن طوفان الأغنية التي يعافها الشيطان والملاك وبصاق السكارى، وكنت حزينا جدا على المستقبل الأغنية والكلمة. ها نحن وصلنا إلى المستقبل المعتوه، وتجاوزناه بخطوة، وصلنا إليه بعقول من الأقدام والجوارب، بتربية الجرذان في الرأس والنفس، بدعم الدودة والأوبئة، بتشجيع الكلمات النابية التي أكلت الملايير، وأكلت الجمال والحمام فينا. هل تريد العودة إلى جهنم التي نحن فيها؟ أنبئك ثانية صديقي البهي: هذا السياق لا يليق بك لأنك نظيف جدا، لا يحبك، لا يرغب في رؤيتك كبيرا وشامخا كصفصاف البارئ في القرية. يريدك منحطا أو لصا، زاحفا، ووسخا فوق العادة. المقام كله ضدك، وضدي، وضد سليمان جوادي، لكن سليمان هذا يتفاءل بالعامية والفصحى، يكابر كما تعرفه قبل الردة، ويكتب زهرا يافعا، ينسج هديل أبيات لن يلحنها سوى واحد مثلك، لكننا لا نجد هذا الذي مثلك في كل هذا الخراب الذي ببذلة أنيقة وخصال عقرب. لا يغرر بك أحد بعد الآن. أرجوك أن تبقى مطمئنا في قبرك، وأن تحجز لنا مكانا قربك، أو بعيدا عنك إن اكتشفت فينا خللا أو عيبا. لقد انقضى العمر خطأ، وحان الوقت لزيارتك بعد موت طويل في البلد. لا تقلق علينا كثيرا أيها الموسيقار الطيب. إننا لسنا بخير، قبلك وبعدك،لسنا في نعمة، كما لو أننا خلقنا في هذا البلد لنكون خطأ مطبعيا أو حشوا.هل تتذكر ما كتبه مصطفى السباعي قبل أن يرحل؟ "عندما يمسك بالقلم جاهل، وبالبندقية مجرم، وبالسلطة خائن، يتحول الوطن إلى غابة لا تصلح لحياة البشر".لا تعد غدا. سيحاربونك، وسينتصرون عليك وعليّ وعلى سليمان لأن لهم قدرة كبيرة على القتل بحب... وبإتقان.