أعدت قراءة بعض مؤلفات الكاتب الأمريكي هنري ميللر (1891، 1980) بمتعة لا تضاهى، مع أني لا أميل إلى بعض بذاءته التي كان يراها طبيعية، وضرورية لمؤلفاته التي دمّرت السرد والجنس الروائي، من مدار الجدي، إلى مدار السرطان، إلى جبار ماروسيا والربيع الأسود، وصولا إلى ثلاثية الصلب الوردي: صبوات، الوشيجة، الضفيرة). لقد ظل ذا قدرة عجيبة على تجاوز ما يكتبه، دون أن يكرر نفسه، ومن يقرأ مؤلفه الاستثنائي: الكتب في حياتي، يدرك كيف استطاع أن يجدد قدراته السردية والموضوعاتية والرؤيوية والمعرفية برمتها. لقد كان لا يتوقف عن القراءة، مكتبة كبيرة، وكائنا لا يقرّ له قرار، ولهذا قال، كما لو أنه يعلق على نفسه: القارئ النهم هو رجل عرف كيف يبدد وقته بفخامة. كتب هنري ميللر نصوصا مؤثثة، وعميقة جدا، دون تكرار، ودون تبذير للجمل، ودون حشو مملّ يقهر المتلقي ويجعله يبتعد عن الكتاب، وكانت كتاباته عبارة عن خليط من القصص والروايات والنقد والفلسفة والتأملات والسيرة الذاتية والأديان والتصوف والواقع والخيال والإدانات الجماعية للمحيط والأخلاق. لقد قام بتحطيم كثير من النظريات والتقنيات والأشكال الروائية، متحديا الجميع، القراء والنقاد والأكاديميين والصحفيين. كما كان ابن مدينة بروكلين رساما ومسرحيا ومناصرا كبيرا للسينما، ميالا إلى الإخراج، ورحالة لم تكفه المدن والعواصم والجغرافيا التي سرعان ما يشعر فيها بالاضطهاد. لقد قال ذات يوم، وهو يغادر بلده: "إن أكبر خطأ ارتكبته في حياتي هو أني ولدت في الولاياتالمتحدةالأمريكية، هذه الحضارة المشكلة من القصدير والحجارة". هكذا هاجر إلى باريس بحثا عن فضاء أرحب، وعن الإنسان هناك التقى بدوس باسوس، ستينبيك، شيرود أندرسون، وجورج أورويل لاحقا، وغيرهم من الكتاب العالميين المهاجرين، وكان يردد: "لقد أحببت حقا أن أكون أجنبيا". ذلك أن نصوصه لم تقبل في بلده، وكان عليه أن يتنازل عن نفسه وأفكاره كفنان اختار وجهته، لينتقل بعد ذلك إلى اليونان ويكتب رواية جبار ماروسيا، وهي أقرب النصوص إليه، وأجملها، حسب أحد حواراته الطويلة. كان يُسمّى البوهيمي، البطل، المتشرد، الهراء، المنفي، الوغد، البذيء، العاق، وقد نشر أول كتبه عندما بلغ الأربعين، كما ظل، في وقت ما، يحصل على قوته من نفايات باريس ويكتب قصصا ومقالات للجرائد التي كانت مترددة في نشرها، أو يقف في طابور مكاتب اليد العاملة، حتى إذا وصل إلى الشباك باع مكانه للحصول على بعض المال، ثم يعيد الكرة من جديد، وكان يقول: "ما هي حاجتي إلى النقود إذا كان لديّ أصدقاء، ما الذي يريده أيّ شخص إذا كان لديه أصدقاء، أصدقاء رائعون؟ أنا أخسرهم فقط بسبب الموت...الناس جميعا معنيون بشيء هو في الواقع لا يعنيني بشيء، ولا أهتم به... كنت دائما خارج السرب، لا أحد يعرف ما يدور في خلدي، لا أتعمق مع أحد، كأن لي قضية أخرى، وحربا لا تعني الجميع." كتابات هنري ميللر ليست رثاثا في السوق السوداء، مهما اختلف القارئ معه في بعض ما كتبه، أي أنها ليست من ذلك النوع الذي يمكن الحصول عليه بثمن بخس لأنها هشة، وضعيفة بنائيا وسرديا ومعجميا وأسلوبيا، سطحية ثقافيا وفكريا، وفقيرة من حيث التصوير. كلّ جملة من جمله تستدعي وقفة متأنية، قراءة ثانية أو تأويلا أو بحثا عن مرجعية أو تفسير لفكرة أو استعارة أو تشبيه مفارق يصعب إدراكه بالنظر إلى المسافة بين المشبه والمشبه به... ثمّ هذا العمق الكبير الذي جعله موضوع أسئلة كثيرة بالنسبة للنقد الذي حاول فهم منظوراته المعقدة، الجديدة، أو الصادمة في كثير من الحالات، مقارنة بالكلاسيكيات الأمريكية والأوروبية، بالكتابة المثالية، بما في ذلك التوجهات الجديدة في الغرب: السريالية والدادائية اللتين عرفهما وتعرف على أعلامهما، عن طريق اللقاءات، أو بوساطة الكتب التي اطلع عليها، رغم أنه انتقائي كبير لا يقبل قراءة أيّ كتاب، كما تدلّ على ذلك بعض تصريحاته المثيرة للجدل، تلك التي أنزلت بعض المشاهير إلى القاع لأنه ظل ينظر إليهم باحتقار شديد، رغم أنهم مكرسون إعلاميا وأكاديميا. لم يكن هذا التسونامي المسمى هنري ميللر، يحب المدرسة أساسا، بل كان يحقد عليها باستمرار لاعتقاده أنها منافية للذكاء والمبادرة والحرية والعقل والإبداع، أو سجنا كبيرا للعبقرية، ذاك تصوره عن المنظومة التربوية التي تقنن الفرد وتجعله آلة تقوم بما يملى عليها من الآخر. لذا تخلى عنها مبكرا بحثا عن نفسه وسط ضجيج النظريات والمفاهيم والآداب والأديان والثقافات والأنثروبولوجيا. كما ظل يحتقر السياسة والسياسيين بنوع من السخرية السوداء التي تشبه سخرية جورج أورويل في رواية مزرعة الحيوان، مع أنه لم يكن يحبه: "أعتبر السياسة شيئا خاطئا تماما، عالما متعفنا، لن نصل إلى أي مكان في السياسة، إنها تفسد كل شيء...على الشخص أن يكون تافها، ومجرما بعض الشيء، ليكون سياسيا."، لذلك دعا إلى إيجاد طريقة للعيش في شكل جماعات متآلفة لها نفس الاهتمامات من أجل التخلص من الدول والحكومات. لم تكن هذه المواقف ذات علاقة بحياته القلقة، المنزعجة، المضطربة، خاصة عندما كان شابا متسكعا ما بين بروكلين وفرنسا واليونان. لقد كان مرعوبا من العالم البارد الذي يحيق به، من المحيط المناوئ للإنسان والقيم والفضيلة، وكان منزعجا كثيرا من السياسيين، كانزعاجه من المجتمعات الأوروبية والأمريكية والطفيليين الذين يملأون حياته بتعليقاتهم وانتقاداتهم. لذلك قال عنهم ذات يوم، بكثير من الصراحة المثيرة التي اشتهر بها طوال حياته الفلسفية والأدبية:«الناس كالقمل، يدخلون تحت جلدك فتحكّ وتحكّ حتى يخرج الدم، لكنك لا تتخلص من القمل طويلا." وتلك حقيقة تاريخية لا يمكن نكرانها. هناك ناس في هذا الكون لا يختلفون عن القراد والقمل وذباب المناقع، لكنهم حاضرون ومؤثرون كثيرا في المجتمعات التعيسة. سيميل ذئب البوادي هذا، الرجل الفظ،الوقح، مع السن والتجربة، إلى الهدوء والسكينة، دون التخلي عن فلسفته ومواقفه السابقة التي اشتهر بها خلال عقود من التأليف. سيعود إلى بيع سور بالولاياتالمتحدة ويعيش حياة أخرى، قريبة من العزلة والتصوف بعد مرحلة من التشرد الملهم الذي جعله منه كاتبا عالميا مميزا، وغريب الأطوار:« لديّ طبيعة صينية، في الصين القديمة عندما يكبر الفنان أو الفيلسوف يعتزل حياة المدن ويذهب ليتأمل بسلام."، وذاك ما قام به بعد ترحال كبير حتى يبصر نفسه جيدا، بمنأى عن الصخب والناس والشهرة. لقد أدرك، في النهاية، أنّ لا شيء يستحق المعاناة: "يعرف الإنسان في لهاثه الأخير أن المستقبل عبارة عن مرآة زائفة، وقذرة". أجل، ذاك هو المستقبل لمن له بصيرة حادة، ولا يمكن أن يكون إلا كذلك. سيتأمل ما يقوم به الآخرون لمعرفة أخطائه وفجواته السابقة، حماقاته، أفعال الآخرين، كلام الأطفال وطيشهم، الكتابات المتدنية، النزق، الخرف، التهوّر. سينظر إلى الكون بعيون الرجل المسنّ الذي ألهمته الأعوام،وبعقل الحكيم الذي اختبر كل شيء، دون أن يقتنع بشيء معين، ثمّ وقف في مفترق الطرق ينظر إلى الزمن والصيرورة، عاجزا عن آخره، كما لو أنه يرغب في إعادة اكتشاف العالم من جديد: "في الثمانين أعتقد أني أصبحت شخصا مرحا، أكثر مما كنت عليه في العشرين أو الثلاثين، بل ولا أرغب في العودة إلى ما قبل العشرين. قد يكون الشباب بهيا، لكنه مؤلم أيضا." ذاك ما انتهى إليه هذا "الرجل القذر"، الكاتب الذي قوّض أركان الرواية وأعاد النظر في الفلسفة، الأخلاق، الإنسان، المنظومة التربوية، القيم، المجتمعات المادية. لقد قام بقلب كلّ ما وجده أمامه من قناعات، ونظر إلى اليقين بريبة لا تضاهى. لقد عاش في كنف الأسئلة الخالدة، وانتهى إليها، مطمئنا إلى حدّ ما، لكنه لم يصل أبدا. أمّا نحن فنصل إلى الحقائق من أول خطوة نقوم بها متلعثمين، من أوّل مرجع نطلع عليه بسرعة، من خطاب المقهى والحانة، لذلك نصبح يقينيين بين عشية وضحاها، ومستعدين لاغتيال الآخرين الذين لا يشبهوننا، وتلك محنتنا الكبرى عبر الزمن.